الموقف الثالث والأخير الذي يعطينا أنموذجاً لما وصل إليه خريجو هذه المدرسة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، هو موقف الثلاثة الذين قتلوا في معركة اليرموك، وهذه القصة رواها عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن أبي جهم بن حذيفة العدوي قال: [[كان لي ابن عم جرح في المعركة فسقط فأخذت ماءً في إناء وقلت: أذهب إليه فإن وجدته حياً سقيته وبللته ببعض الماء، قال فجئت إليه فقلت له: تريد الماء؟ فقال: نعم، فسمع بجواره صوت جريحٍ يقول: آه، فأشار إليَّ أن اذهب به إليه، فذهبت به إليه فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، قال: فأعطيته إياه فلما أراد أن يشربه سمع جريحاً ثالثاً يقول: آه، وهو ينشق يعني: في حالة النزع فأشار إلي أن اذهب به إليه فذهبت به إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى هشام فوجدته قد مات، ورجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات]] .
صورة رائعة من صور الإيثار ليست في الرخاء، لأن الذين يؤثرون في الرخاء كثيرون، لكن من الإيثار في حالة الشدة بل في أشد شدة يمكن أن تعرض للإنسان وهي حاجته إلى جرعة يبرد بها ما يجد من الحر في جوفه وهو يجود بنفسه، ولا عجب أن يصل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين إلى هذا المستوى، وليس ما ذكرته إلا نماذج فقط، وإلا فبإمكان أي واحد أن يقرأ بعض الكتب التي جمعت أخبارهم ليجد العجب العجاب، وهي كثيرة أذكر منها: سير أعلام النبلاء للذهبي وحلية الأولياء لـ أبي نعيم والإصابة لـ ابن حجر والاستيعاب وأسد الغابة وغيرها، من الكتب التي تحدثت عن الصحابة والتابعين أو عمن جاءوا بعدهم من المقتدين بهم.
إن من واجبنا -أيها الشباب- أن نجعل هذه القدوات مثلاً أعلى لنا، وأن نحرص في حياتنا على أن نصل إلى بعض ما وصلوا إليه فإن كل إنسان لا بد له في حياته من مثل أعلى، فإذا كان كثير من الناس اليوم جعلوا مثلهم الأعلى فلاناً وفلاناً؛ من أهل الغناء أو الرياضة أو الجاه أو الثروة أو غيرهم، فليكن مثلنا وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.