من التواضع عدم الاشتغال بالناس

يقول ابن دقيق العيد لرجل وقد رآه يطلب العلم فأعجبه، قال له: أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته؛ فلا تهجوا أحداً.

لا تهجو أحداً: لا تجعل لسانك يصول ويجول في أعراض الناس لأنك طالب علم، فتفتخر عليهم، وتقول كل شيء يخالف الشرع، وتأتي لفلان وعلان، وتضربهم بسياطك بحجة أنك أنت الناطق الرسمي باسم الشرع، لا، هذا ما يصلح، قال: فما تكلمت في أحد قط.

ليس من صفات العالم الرباني الخصومة واللجاج في كل شيء ولسبب ولغير سبب، ولهذا الله عز وجل نفى في هذه الآية عن الأنبياء وعن الربانيين أنهم يدعون الناس إلى أنفسهم، لا يدعون لأنفسهم فتضمن ذلك أنهم لا يغضبون لحظوظهم الدنيوية، ولا يسعون إلى رفعة أنفسهم على حساب الآخرين -مثلاً- ولا يغضبون لأن فلاناً ما التفت إليهم، أو ما اتجه إليهم، أو ما أشبه ذلك، إنما غضبهم للحق وحتى غضبهم للحق، هو غضب يتبعه حرص على التصحيح.

فهذا الإنسان الذي رأيت أنه أخطأ أعامله بالحسنى رجاء أن يعود إلى الحق، فمن غضبي للحق ألاَّ أظهر غضبي، بل أظهر له اللين تأليفاً لقلبه، فإن رأيت أن عنده إمكانية القبول والأخذ والرد معي فلا أغضب عليه، فإن وجدت أنه مبتدع -مثلاً- وأنه مصر، وأنه مجاهر، وأنه معاند للحق حينئذٍ لكل مقام مقال.

يقول الجاحظ: "وأنا أحذرك من اللجاج، فإنه لا يكون إلا من خلل القوة، ومن نقصان قد دخل على التمكين، واللجوج في معنى المغلوب"، نعم! هذا كلام علمي رصين، اللجوج: هو الذي تجده يرفع الصوت ويصرخ يبهرج الكلام هذا مغلوب، أما الإنسان الواثق الغالب فتجده قوياً بالحجة، ولو كان صوته هادئاً، ولو كانت نبرته هادئة، لكنه قوي بالحجة، قوي بالبرهان، ومع ذلك لا يلتفت إلى هذه الأعاصير وهذه العواصف التي تثار هنا وهناك.

فهو لا يختار الرد -مثلاً- من أجل أن يريح نفسه، أو يشبع غروره، أو يظهر الغلبة على خصمه، هذا ليس من شيمة العالم الرباني.

يقول الإمام ابن قتيبة ناصحاً طالب العلم في كتابه عيون الأخبار يقول: أحب أن تجري على عادة السلف الصالحين في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت وثلبوا وتورعت.

يعني لا تحس بإنك أنت كامل وهم ناقصون، وأنت ورع وهم مخلطون، وأنت متنزه وهم قد اقترفوا بعض المعاصي، لا تحس بهذا، إياك والاستعلاء! إياك والكبر! {بطر الحق وغمط الناس} كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولاتك كالدخان يعلو مكانه على طبقات الجو وهو وضيع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015