إذاً: فالعالم الرباني حكيم في علمه، يضع العلم في موضعه، ولا يصرف العلم لمن ليس له بأهل، فمن الحكمة أن يكون حكيماً في علمه يضعه في موضعه، ولا يضعه أو يقدمه لمن لا يناسبه، فمثلاً عامة الناس يحتاجون إلى حكمة في إيصال العلم الذي يجب أن يتعلموه، فتيسر وتسهل لهم العلم الشرعي حتى يمكن أن يصل إلى العوام من النساء والرجال والكبار والصغار وغير المتخصصين، تيسيره باللفظ والقول، والفعل، وتسهيله من خلال دروس للعامة، من خلال كتيبات، من خلال أشرطة بحيث يكون العلم الشرعي متاحاً لكل إنسان يريد أن يتعلم بالتسهيل والتيسير، هذا لابد منه، تأتي بعبارة لبقة بحيث أن هذا العلم يكون للناس كلهم، هذا صحيح.
لكن -أيضاً- ليس من الحكمة أن تأتي إلى هؤلاء العوام، فتدخلهم في أمور ليسوا بحاجة إليها، تحشدهم مثلاً من أجل الرد على خطأ العالم الفلاني، فتجمع العامة ثم تقول لهم: فلان أخطأ في كذا، وأخطأ في كذا، وتأتي ترد عليه بالآيات والأحاديث وأقوال من أهل العلم ونحو ذلك، حتى لو كان أخطأ فعلاً في اجتهادلم يحالفه فيه الصواب، لماذا؟ لأنك إن حشدت ضمائر العوام على هذا العالم فانتظر منهم كل شيء، انتظر أن منهم من سوف يكون معك، فينزل على ذلك الذي خطأته بكل قول سيء، وربما وصل إلى تفسيقه، أو تضلليه، أو تبديعه، وربما تكفيره، وربما شتموه، وانتقصوه، ووقعوا في عرضه وأنت السبب في ذلك كله.
وماذا يهم العوام من شأن فلان وفلان؟ يهمهم هم العلم الموصل إلى الجنة، ودعهم وما هم فيه، لا يحتاجون إلى مثل هذا، ولا ينتفعون به، وإن حشدتهم إليه فتوقع منهم كل شيء، وربما كان بعضهم ضدك، ولم يقتنع بما قلت؛ فأصبح في المجالس يتحدث عنك، ويخطئك، وينتصر لذلك العالم فأحدث ذلك شرخاً عظيماً يصعب سده وردمه، وأصبح العوام أحياناً حكاماً بين العلماء، أصبح العامي حكماً فلان أخطأ وفلان أصاب، لماذا؟ أنت جررته إلى هذا الميدان الذي هو ليس ميدانه، فهذا من الحكمة أن تضع العلم في موضعه.