الحكمة في مخاطبة الناس

ومن الحكمة أيضا ألا تصدم الناس بما هو أكبر من عقولهم فيكون هذا سبباً في ردهم وتكذيبهم، وفي الأثر: [[خاطبوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] قاله على بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول الغزالي في إحياء علوم الدين: كِل لكل عبد بمعيار عقله -بقدر عقله- وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه من قوله أو إنكاره، حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وكم من إنسان خُطِّئ وبدع، وربما ضلل وهو على حق؟ لكن لأنه تكلم بهذا الكلام في وسط قوم لاتسع عقولهم ما قال، أو أن هذا الكلام بُلِّغ إليهم من غير طريقه، فخطئوه وهم المخطئون، وضللوه وهم الضالون.

ومن الحكمة أن يبدأ بالأهم قبل المهم، فيشتغل بالعلوم الضرورية قبل العلوم الحاجية، وبالعلوم الحاجية قبل العلوم التحسينية، فالعلم الذي يضطر إليه اليوم ويفوت كوقت الصلاة -مثلاً- فيتعلمه الآن؟ ويقدمه على علم يحتاجه فيما بعد، والعلم الذي يحتاجه يقدمه على بعض الأشياء التي هي من باب الكمال ولكنه قد لا يحتاج إليها.

وكذلك لابد أن يكون حكيماً في عمله، فمثلاً: ليس مناسباً أن يعمل أمام الناس عملاً هو يعرف أنه مباح، لكن الناس يستنكرونه ويستكثرونه منه، فيُسِرُّ بهذا العمل ما دام أنه يعرف أنه ليس فيه شيء من الشرع، يُسِرُّ به لئلا يراه الناس فيستغربونه ويستنكرونه.

ولهذا من عجيب ما يقال: أن عالماً سجنه أحد الطغاة في السجن، وقال له: لابد أن تأكل لحم الخنزير، تجلس على مائدتي، وتأكل معي لحم الخنزير لابد من ذلك، فأبى، فأتاه بعض الطباخين المخلصين من خدم الملك، وقالوا له: نحن سوف نضع لك لحم ضأن، لكن كل من أجل تفتدي نفسك وتخرج من السجن، فقال: لا آكل، قالوا: لماذا؟ قال: من يبين لهؤلاء العوام بأن ما آكله هو لحم ضأن؟ سيظنون أن ما أكلته لحم خنزير فيستحلون بذلك، أو على أقل تقدير يرون أنني أكلت حراماً، وأنا عالم يُقتدى بي في فعلي كما يقتدى بي في قولي، فلا أفعل، وأصر على موقفه، هذا من الحكمة.

ومن الحكمة أن يكون حكيماً في تعليمه، يُعطي كل أحد ما يستحق، يخص بعض الناس بالعلم الذي يناسبهم، يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويبدأ بالأهم قبل المهم، ويتدرج إلى غير ذلك مما سوف يأتي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015