هناك نوع آخر من الملاحظات والتصحيحات وهي أمور حديثية: فقد كتب إلي عدد من الإخوة عن بعض الآثار والأحاديث التي كنت سقتها في مناسبات متنوعة وتحتاج إلى تخريج، أو إلى استدراك.
وأذكر لكم شيئاً من ذلك: 1- ما أُثر عن عمر في الخمر: فمنها: أنني في محاضرة وأعتقد أنها كانت بعنوان "التربية الوجدانية" ذكرت أثر عمر رضي الله عنه قوله: [[والخمر ما خامر العقل]] ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواقع أن هذا ليس بحديث مرفوع، ولكنه أثر موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه البخاري في كتاب: التفسير، من صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [[أما بعد أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.
قال: والخمر ما خامر العقل]] .
2- أثر علي (أحبب حبيبك هوناً ما) الملاحظة الثانية: أثر علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] فقد ذكرت هذا الحديث وعزوته إلى الترمذي وغيره مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواقع أن هذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الدارقطني في كتاب الأفراد، والبيهقي أيضاً في الشعب عن علي رضي الله عنه ورواه البخاري في الأدب المفرد، وابن عدي، والبيهقي في الشعب عن علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ورواه غيرهم عن عمر رضي الله عنه كما في كتاب الأدب المفرد للبخاري.
وقال الترمذي عن هذا الحديث: " هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه " ثم ضعف الحديث المرفوع ثم قال: " الصحيح عن علي موقوف من قوله " يعني: أن الحديث لا يصح مرفوعاً بل هو موقوف، وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم، وكأنه هو المعتمد، وإن كان بعض أهل العلم الكبار رجحوا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمسألة مسألة اجتهادية تعتمد على البحث والنظر.
يبقى كلام في معنى الحديث: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] .
إن الحديث يدعو إلى الاعتدال في المحبة، فهذا الذي تحبه ربما يتحول يوماً من الأيام إلى عدو مبغض، واعتدل أيضاً في البغضاء، فربما كان هذا العدو الذي تبغضه أشد البغض ربما تحول يوماً من الأيام إلى محب.
وهذا المعنى ورد في القرآن الكريم قال الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] وعسى من الله واجبة كما قال المفسرون، كما قال ابن عباس وغيره: فتحول هؤلاء القوم الذين كانوا أعداء مبغضين، تحولوا إلى أصدقاء محبين موالين مناصرين، فينبغي على الإنسان أن يعتدل في حبه وبغضه.
ولهذا جاء في المثل (لا يكون حبك كلفاً) أي: تسرف في المحبة، وتعطي العواطف بلا قياس، حتى إنك تجد في بعض المجتمعات، وفي بعض مدارس البنات، ومدارس الأولاد، ما يسمى بالإعجاب.
أن البنت تتعلق بمدرسة، أو حتى بزميلة تعلقاً شديداً، فتصبح لا تصبر عنها ساعة من نهار، تكلمها، وتحادثها، فإذا غابت عنها اتصلت بها في الهاتف، وتقلدها بأصواتها، وحركاتها، ومشيتها، وملابسها، وتسريحتها، وكل شيء حتى تذوب شخصيتها في شخصية تلك الأخرى وكأنها ظل لها! وهذا لا شك أنه مذموم، ومن تأله القلب، وتعلقه بغير الله تعالى، ويخشى أن يؤدي بالإنسان إلى لون من ألوان شرك المحبة قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] .
فينبغي للعبد أن يحذر من ذلك، وأن لا يجعل قلبه مسرحاً ومرتعاً للتعلق بفلان وفلان، فيكون عنده محبة معتدلة للخير وأهله، وإذا أبغض فينبغي أن يكون بغضه معتدلاً (لا يكون حبك كلفاً ولا يكون بغضك تلفاً) فالاقتصاد في العواطف إذن مهم.
3- آثار عن عمر أسنادها منقطعة: أيضاً من الملاحظات في هذا الجانب: أولاً: قول عمر رضي الله عنه: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] .
هذا أخرجه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس، وأبو نعيم في الحلية عن ثابت بن الحجاج عن عمر، ورجاله ثقات، وإن كان ثابتاً هذا لم يسمع من عمر رضي الله عنه.
ورواه مالك بن مغول أنه بلغه عن عمر، أخرجه ابن المبارك في الزهد، وكذلك رواه أبو عبيد في المواعظ، وعلقه الترمذي في سننه.
وأيضاً مثله قول عمر رضي الله عنه: [[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] .
أخرجه الدارمي في سننه عن عباد بن عباد الخواص عن عمر في خبر طويل وسنده منقطع، ولكن معناه صحيح، وربما وجد بغير هذا الإسناد.
[[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] فإن العبد يدعو ويفرح وهذا الأثر مناسب جداً لهذا الدرس؛ لأن فيه دعوة الإخوة إلى أن يتهادوا عيوبهم، فانظر كيف اعتبر ذكر العيب هدية تقدمها له؛ لأن الإنسان قد لا يكتشف عيبه بنفسه، قال الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة مثله أيضاً: قول أبي الدرداء -رضي الله عنه: [[إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك]] هذا أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ، وابن عساكر أيضاً عن لقمان بن عامر عن أبي الدرداء موقوفاً وفي سنده فرج بن فضالة وهو ضعيف، ولقمان بن عامر روايته عن أبي الدرداء مرسلة كما قال أبو حاتم الرازي رحمه الله.
ورواه عون بن عبد الله أيضاً عن أبي الدرداء، أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث، وابن عساكر وهو مرسل.
ورواه يحيى بن سعيد عن أبي الدرداء كما عند ابن عساكر، والأثر ثابت عن أبي الدرداء في هذه الطرق وغيرها والله تعالى أعلم.