أنت وليس أنا

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا هو الدرس (76) من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الاثنين الثامن من شهر جمادى الأولى من سنة (1413هـ) .

وعنوان هذا الدرس هو "المراجعات الثانية" وقد كنت تحدثت قبل أشهر حديثاً عنوانه: (المراجعات) صححت فيه بعض الأمور، ورجعت إلى بعض المسائل، وتكلمت عنها بما فتح الله عز وجل.

أما اليوم فهذه هي الحلقة الثانية من المراجعات، أول عنوان: (أنت وليس أنا) .

إن هذه الدروس والمحاضرات هي بعض مشاركاتكم، فأنا مدين لله عز وجل ثم لكم جميعاً، رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً، من داخل البلاد وخارجها، سواء من كاتبوني، أو راسلوني بالفاكس، أو شافهوني بما لديهم.

أنتم يا هؤلاء الذين كتبتم إلي بالموضوعات المقترحة، وبعثتم إلي بالعناصر، وحشدتم لي النصوص، وأعنتموني على طرق هذه الموضوعات، إنه درس مهم في الاستفادة مما عند الآخرين، وفتح الأبواب لهم في المشاركة.

إن هذه الدروس والمحاضرات والندوات، بل هذه الأشرطة التي تشرق وتغرب إنها ليست لي، بل هي أفكاركم أنتم، وآراؤكم، وعلومكم.

هي: أحاديثكم وإن كانت بصوتي، وبصماتكم وإن كانت بيدي، وإملاءاتكم وإن كانت بقلمي.

فأنا مدين لكل من بذل ولو شيئاً يسيراً، ولكنني على هذا وذاك أتحمل مسئوليتها ولا بد، في الدنيا وفي الآخرة، فلكم حارها وعلي قارها، فأما في الدنيا فهي من كلامي ولفظي وقولي، ولا شك أنني مسئول عنها، ومحاسب، ومسآءل، ومعاتب.

ومن حق أي أحد عليَّ أن يطلب التحقيق والتدقيق، وأن يسأل عن الإثبات والبينة.

إنني حريص إن شاء الله تعالى ألا أقول لكم شيئاً إلا بيقين عندي لا شك فيه، ولو تسامح الإنسان وقال كل ما يظن، أو ما يغلب على ظنه، لكان الأمر شيئاً آخر غير ما رأيتم وسمعتم، ولكنني آليت ألاَّ أقول إلا ما علمت أنه حق بيقين.

إن من احترام المستمع، أو القارئ، أن يوثق الإنسان له كل ما يقول، ويذكر له، فهذه المسئولية الدنيوية، أما المسئولية الأخروية فشيء عظيم قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .

وروى البخاري في صحيحه في كتاب: الرقائق، باب: حفظ اللسان، ومسلم أيضاً في باب: الزهد، ومالك في الموطأ كتاب: الكلام، باب: ما يكره من الكلام، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم} وفي حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه} والحديث رواه أبو داود، والترمذي، ومالك وغيرهم، وهو حديث صحيح.

قال بعض الصالحين: " كم من كلمة منعنيها حديث بلال ".

وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: " الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار، هي التي يقولها عند السلطان الجائر بالبغي، أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إليه فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي يرفع الله بها العبد الدرجات، ويكتب له بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج بها عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً ".

وقال بعض أهل العلم: " الكلمة التي يسخط الله تعالى عليها، هي: الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها ويسخط الله تعالى ".

ولا شك أن الأمر أوسع من ذلك، فالكلمة التي ترضي الله تعالى قد تكون عند السلطان، وقد تكون في جريدة، وقد تكون في إذاعة، وقد تكون في الرأي، وقد تكون في مجلس، وقد تكون في غير ذلك، وقد تكون في كتاب، أما الكلمة التي يسخط الله عليها فقد تكون في ذلك كله.

ومع ذلك فإن باب التوبة مفتوح، وإمكانية التراجع عن ما يسخط الله تعالى قائمة، ولهذا شرعت النصيحة بين المسلمين، لعل مخطئاً أن يتوب وينزع، أو غافلاً أن يصحو أو نائماً أن يفيق.

وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم} .

ولهذا فإن من حق بعضنا على بعض أن نتعاون على معرفة الخطأ وتصويبه والرجوع عنه، كما نتعاون في إعداد الموضوعات، واقتراح الدروس، وإلقاء المحاضرات.

وإنني كما أعربت عن شكري لأولئك الذين وافوني بأشياء تتعلق بدروس، أو محاضرات، أو مقترحات، فإنني أشكر أكثر وأكثر أولئك الإخوة الذين يعينوني على معرفة الأخطاء، وعلى اكتشاف العيوب، سواء كانوا من الأصدقاء، أم من غيرهم.

وإذا كان الشاعر يقول: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا إذا كان هذا كلامه عن عدوه، فكيف ترون وتظنون أن أقول عنكم أيها الأصدقاء! الذين تنطقون بالنصيحة بكل الحب، والوداد، والرغبة في تجنب الخطأ، وإدراك الصواب، والوصول إلى المعالي.

إن هذا لا شك يقال لكم من باب الأولى، فلكم أنتم فضل كبير، ومنة كبرى في عنق كل من ساهمتم في تصحيح خطأ وقع فيه، أو استدراك أمر فاته، ولكم مع ذلك كله الدعاء الخالص الحار، أن يرفع الله بهذه الكلمات درجاتكم، وأن يوفي بها يوم الحشر حسناتكم، وأن يجعلكم بها من الدرجات العلى في الجنة، وأن يوفقكم بها لكل خير، ويجنبكم كل شر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015