صورة أخرى

وثمة صورة أخرى متقابلة تختلف عن هذه بعض الشيء في شكلها ومضمونها، فأما اختلافها في المضمون فإنها صورة شعرية لرجلين شاعرين معروفين، وأما مضمونها فإذا كان كل من أبي جهل في معسكر الكفر وسعد بن الربيع في معسكر الإيمان كان لهما مكانة في مجالهما وفي معسكرهما، فإن هذين الرجلين اللذين سوف اذكرهما ليسا بتلك المنزلة: أحدهما مؤمن تائب لكنه لا يزال يعيش بعض آثار الجاهلية، والآخر رجل جاهلي كافر قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن له خيلاء أبي جهل ولا غروره ولا غطرسته.

أما الأول منهما فهو: عبد يغوث الحارثي وكان في الجاهلية رجلاً شاعراً مشهوراً شجاعاً، أسرته قبيلة من القبائل المعروفة يقال لها قبيلة تيم الرباب، فلما أسروه هموا به فأمسكوا لسانه، وربطوه بنسعة خشية أن يهجوهم أو يقول فيهم شيئاً من الشعر، فلا يطلقونه إلا للأكل والشرب، فقال لهم: أطلقوا لساني حتى أهجو قومي فأطلقوا عنه لسانه، وقال: لهم اقتلوني قتلة كريمة، قالوا: ما هي القتلة الكريمة؟ قال: أن يسقوه خمراً، ويقطعوا أكحله فيدعوه ينزف حتى يموت، ففعلوا به ذلك فلما بدأ دمه ينزف وهو في غير صحوة وفي غير عقله تمثل أو قال أبياتاً من الشعر يقول: ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من شماليا فيا راكباً إما عرضت فبلغن نداماي من نجران ألا تلاقيا أبا كرب بني مالك والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا جزى الله قومي بالكلاب ملامة صريحهم والآخرين المواليا أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا فإن أخاكم لم يكن من بوائيا والكلاب هو اسم تلك المعركة التي أسر فيها.

فهو يدعو على قومه سواء الذين هم صرحاء أو مواليه وموالي قومه.

بدأ هذا الرجل يتكلم عن مآثره، وعن الأشياء التي يفتخر بها في الجاهلية، هذا شعوره وهو الآن يلفظ نفسه ويغادر الدنيا، آخر فرصة قد ضاعت عليه الآن يقول: وقد علمت عرسي مليكة أنني أنا الليث معدواً عليه وعاديا وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطي وأمضي حيث لا حي ماضيا وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي وأصدع بين القينتين ردائيا وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا لبوقاً بتصريف القناة بنانيا مليكة هي زوجته.

مطيتي: يعني قومه ينحر لهم مطيته التي يركبها إذا لم يجد غيرها.

إلى آخر ما قال وأخيراً يقول مضى هذا كله وانتهى: كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كرى نفسي عن رفاقيا أو قال: "عن رجاليا".

فهذا نموذج لرجل كافر كل همه خمر وغانية وكأس وفخر بماضيه وتاريخه وشجاعته وكرمه إلى غير ذلك، انتهت حياته هكذا كأن لم يكن.

وفي مقابل هذا تجد الصورة الأخرى لرجل مسلم وهو مالك بن الريب، وكان لصاً أديباً بليغاً قاطعاً للطريق، فأبصره سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان في غزوه إلى فارس، فأعجبه هذا الرجل في جماله وحسن أدبه وما أشبه ذلك، فسأله: لماذا تقطع الطريق؟ قال: ليس لدي مال، وأنا رجل كريم، ولا بد أن أكافئ الإخوان وأحيي الضيفان، فلذلك اضطر إلى السرقة وإلى قطع الطريق، فأكرمه وأعطاه مالاً كثيراً، فتاب الرجل وذهب معه إلى الغزو، فلما كان بخراسان بات إحدى الليالي، فلما أراد أن يلبس خفه قيل إنه كان فيها حية فلدغته، فصار يتلوى ويتقلب من السم الذي في بدنه، ويقول هذه القصيدة المشهورة التي في مطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وأصبحت في أرض الأعادي بعيد ما أراني عن أرض الأعادي قاصيا فلله دري يوم أترك طائعا بَنِيَّ بأعلى الرقمتين وماليا إن الله يرجعني من الغزو لا أرى وإن قل مالي طالبا ما ورائيا يقول: إن نجوت لن أطلب شيئا حراماً، لن أطلب ما لا يرضي الله عز وجل.

فيظهر هنا مظهر من مظاهر توبته إلى الله عز وجل، وإنابته وصدقه وإيمانه ومعرفته بما يجب أن يكون عليه، ومع ذلك فثم مشاعر بشرية أخرى قالها في ذلك الموقف تدل على الآثار البشرية الموجودة عنده، وتدل على تعلقه ببعض أمور هذه الحياة، من ذلك مثلاً التعلق بالوطن وتذكر ذكريات الماضي في بلده، من ذلك ترديده لكلمة الغضى، وهو شجر موجودة في بلده كثيراً: فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه وليت الغضى ماشى الركاب لياليا لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى مزار ولكن الغضى ليس دانيا فكأنه يتلذذ بترديد هذه الكلمة لأنها ارتبطت في ذهنه وعاطفته ومشاعره، كما أنك تجده يقول: دعاني الهوى من أهل ودي وصحبتي بذي الطبيسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني بزفرة تقنعت منها أن آلام ردائيا أي: أنه تذكر بلاده وأرضه فحن إليها -هذا شعور بشري- لكن المسلم الحق يرتفع حتى على هذه المشاعر، كذلك التفكير فيمن يبكي عليها، هذا شعور يدل على ما يدل عليه يقول: تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا وأشقر محبوك يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا وبالرمل منا نسوة لو شهدنني بكين وفدين الطبيب المداويا فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا وباكية أخرى: يقصد زوجته.

كذلك شعوره بالغربة والفراق وأن من حوله سوف يدعونه في قبره ويذهبون ولهذا يقول: فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إني مقيم لياليا أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني قد تبين شانيا وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على جنبي فضل ردائيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015