الشهادة في سبيل الله

إن من معنى أن يكون الممات لرب العالمين، أن يموت الإنسان في سبيل الله شهيداً صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر في أرض المعركة، وهذا أمر طالما تمناه حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل} .

ولما غادر أصحابه صلى الله عليه وسلم في معركة أحد قال: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} .

فتمنى صلى الله عليه وسلم أن يقتل شهيداً في سبيل الله، فإن الشهداء يروون شجرة الإسلام بدمهم الأحمر القاني.

ولكن ثمة وسائل وطرائق وصورٌ أخرى غير مجرد القتل في ميدان المعركة، وأضرب لك بعض الأمثلة السريعة: المثل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم عن ذلك الغلام الإسرائيلي الذي كان يتردد بين الساحر والراهب: (حبسني الساحر! حبسني أهلي، حبسني الساحر حبسني أهلي) حتى آمن هذا الغلام، ويوماً من الأيام وجد في الطريق دابة قد سدت الطريق فقال: الآن أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فأزل هذه، فماتت وزالت وذهب الناس يمشون، فآمن هذا الغلام، وبدأ الناس يتسامعون بخبره حتى وصل خبره إلى الملك، فأحضره الملك وعرض عليه أن يرتد عن دينه فأبى فبعث معه مجموعة إلى رأس جبل وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فإن ارتد عن دينه وإلا فألقوه من الجبل، فلما كانوا في رأس الجبل قال هذا الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت فتزلزل الجبل بهم فسقطوا وذهب الغلام إلى الملك، قال: ما صنع أصحابك؟! قال: الله كفانيهم بما شاء، فبعث مجموعة أخرى وقال: خذوا هذا الغلام فضعوه في قرقور - أي في سفينة صغيرة- فإذا توسطتم في البحر فأعرضوا عليه الردة عن دينه فإن ارتد وإلا فألقوه في البحر وأغرقوه، فلما كانوا في عرض البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأ بهم القرقور أو السفينة وغرقوا، ورجع هذا الغلام إلى الملك فقال: ما صنع أصحابك؟! قال: كفانيهم الله بما شاء.

ثم قال للملك: أيها الملك! إنك لا تستطيع قتلي إلا بطريقة واحدة، قال: وما هي؟ قال: أن تجمع الناس كلهم في صعيد واحد ثم تصلبني إلى جذع نخلة أو شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتصوبه إليَّ وتقول: بسم الله رب الغلام فإنك إذا قلت ذلك قتلتني، فجمع الملك رعيته كلها وصلب هذا الغلام ثم أخذ سهماً وصوبه إليه فقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم فأصاب صدغه، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، ثم رجع الملك فقال الناس له: آمنا برب الغلام، فجاء من حوله وقالوا: إن الذي تخشاه قد وقع، فحفر لهم الأخدود وأحرقهم فيه، قال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] إلى آخر هذه القصة.

لقد مات هذا الغلام؛ لكن مماته كان لله رب العالمين، ولذلك مات فرد واحد وحيت أمة بأكملها، مات واحد ممن يقول: (لا إله إلا اله) فنطقت الأمة كلها وضجت بلا إله إلا الله، وهكذا يكون الممات لله رب العالمين، لم يمت في ميدان المعركة مقبلاً غير مدبر إنما مات أمام هذه الجموع الغفيرة التي شهدته وعرفت أن الله تعالى هو رب هذا الغلام، فآمنوا به وكفروا بالطاغوت، فهذا نموذج ممن ماتوا في سبيل الله فكان مماتهم لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015