الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، فله الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأصلي وأسلم صلاة وتسليماً دائمين إلى يوم الدين على نبيه ومصطفاه من خلقه نبينا محمد، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فصلى الله عليه وسلم.
ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه وأمرنا به، ولا شراً إلا بينه وحذَّرنا منه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزي نبياً عن أمته، فقد أبلى فينا البلاء الحسن، وسهر ليله، وتعب نهاره، وشاب شعره، وأنهك جسمه، ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا الدين نقياً مصفى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] .
أما بعد: فأشكر لكم جميعاً يا أهل الأسياح بكل مدنها وقراها، أشكر لكم عظيم حرصكم على حضوري، حيث كان أعداد منكم من الشباب وغيرهم يتوافدون إلى مسجدي يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، يلحون في الحضور، وكنت أشعر بإحراج شديد لتأخري في تلبية هذه الدعوة، إذ أعلم أنه ما دفعهم لذلك إلا حسن الظن بي، وإن كنت أعلم يقيناً أيضاً أنه حسن ظن في غير مكانه، لكن لا أريد أن تضيع الأوقات في مثل هذا، ولذلك أستغفر الله مما قاله أخي المقدم فقد أسرف فيما ذكر، وأسأل الله أن يعفو عنه وعني وعنكم أجمعين ما زلت به ألسنتنا، إنه على كل شئ قدير.
وهذه الليلة هي ليلة الثلاثاء، السادس من شهر صفر، من سنة 1413 للهجرة، وعنوان هذه الجلسة جزء من آية من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباًأَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران:79-80] .
من مصائب الأمة أيها الأحبة: الجهل: وطالما تمرغت الأمة في ظلمات الجهل بعيدة عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقل عن الجهل مصيبة العلم المؤسس على غير هدى ولا كتاب منير، فنحن لابد أن نحارب الجهل، ولكن -أيضاً- لابد أن يكون العلم الذي ندعو إليه مؤسساً على الأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرباً إلى الله عز وجل.
وطالما رأت الأمة شباباً، كما وصفهم أحد الإخوة لي في رسالة بعث بها، يقول: إن بعض الشباب في بلاد إسلامية؛ كان أحدهم إذا استيقظ في آخر الليل يدير مؤشر الراديو قبل أن يفتح الصنبور ليتوضأ لصلاة الفجر، فلا شك أن مراجعة المسيرة، وتصحيح الخطأ، والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليها الصالحون والمصلحون.
إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاً بسيطاً لا يعرف متى وقعت -مثلاً- معركة بدر، فقلت له: وقعت معركة بدر -مثلاً- سنة اثنين من الهجرة حفظها، لكن لو كان سمع طفولته أن معركة بدر وقعت سنة ست من الهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود، لأن الموجود لديه جهل مركب.
إذاً فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يقبل من غيره.
هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) ومعنى الآية: أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر -النبي أو الرسول- أن الله تعالى يمنحه الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس: كونوا عبيداً لي، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادته هو، وإنما يدعوهم إلى الله، فيقول للناس: كونوا ربانيين، لا يأمرهم بغير ذلك، فلا يأمرهم بعبادة نفسه، ولا يأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة والنبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز وجل، وكيف يأمرهم بالكفر وهو إنما جاء وبعث بالإسلام؟ ربانيون: منسوبون إلى الرب، وقد ذكر ابن الأنباري هذا عن النحويين، وهو على كل حال نسبة على غير قياس، كما يقال: شعراني.
ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره: في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون.
ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه.
ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف.
ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى؛ كما هو قول الحسن أيضاً.
وهؤلاء توفرت فيهم صفات: