أيها الأحبة ألا ترون أنه جديرٌ بنا جميعاً أن نعاتب أنفسنا في مثل هذه الليلة، والله إن نفوسنا لجديرة بالعتاب، يا نفس، كم شهراً صمتِ؟! كم سنة أدركتِ رمضان، ثم خرجتِ منه كما دخلتِ فيه، بل ربما كنتِ على حالٍِ أقل مما دخلتِ فيه في رمضان؟! كم سمعتِ في هذا الشهر من موعظة؟! بل كم حفظ الناس من أحاديث وآيات وموعظات وأبيات سمعوها في مدخل هذا الشهر الكريم وفي لياليه العامرات، بالذكر والعبادة؟! لا أقول: كم موعظةٍ سمعتِ؟ بل كم موعظة رأيتِ بعينيكِ؟! كم جنازة شيَّعتِ؟! كم من إنسان واريناه في حفرته ثم خرجنا من المقابر وقد أنكرنا قلوبنا، ما تغيرت إلا إلى أقل مما كنا نصبو إليه؟! بل كم من موعظة أدركناها في نفوسنا؟! رُبَّ إنسان منا أشرف -يوماً من الأيام- أو كاد أن يقع في حادث، وربما أصابه مرض شديد ظن أن فيه حتفه وهلاكه، وربما شاهد أباه أو أخاه أو قريبه وهو يلفظ أنفاسه، وربما وضع الإنسان يديه على رأسه -يوماً من الأيام- وهو يظن أنه في آخر أيامه ولياليه، أو آخر ساعاته ودقائق عمره، ثم خرج من ذلك كله، والقلب لا يزداد إلا قسوة، والنفس لا تزداد إلا إعراضاً، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] .
جدير بكَ أن تختلي بنفسكِ لحظةً وتتساءل: هذه المواعظ التي سمعتُ وأعظمها مواعظ الله -عزَّ وجلَّ- {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
هذه المواعظ التي سمعتِ، بل هذه المواعظ التي رأيت أين كان مصيرها؟! هل زادت العبد قرباً من الله عزَّ وجلَّ؟! هل زادته بصيرة في نفسه؟ هل زادته خوفاً من الله؟! هل زادته رغبة في الجنة؟! هل زادته خوفاً من النار؟! هل زادته إقبالاً على الطاعة؟! هل زادته إعراضاً عن المعصية؟! هل زادته زهداً في الدنيا؟! أم أن العبد يسمع بأذُن ويخرج الكلام من الأذُن الأخرى، ولربما تلهب سياطُ الموعظة ظهرَه لحظات، ثم بعد ذلك يغفل في الغافلين، ويشرد في الشاردين، ولا يتذكر من ذلك شيئاً قط، إلاَّ أنه يقول: طالما سمعنا هذه المواعظ فمللنا منها، نعم يا أخي الحبيب سمعتَ الكثير، سمعتَ الخطباء في أيام الجُمَع، وسمعتَ المواعظ في المساجد، وسمعتَ الكلام في مطلع شهر رمضان، لكن السؤال الكبير الذي يجب أن تسأله نفسَك: ماذا كان أثر هذه المواعظ في قلبك؟ هل حركت ساكناً؟ هل قوَّمت معْوَجَّاً؟ هل أصلحت فاسداً؟ أم أن هذه المواعظ لا تزيد الإنسان إلا غفلة؟! ألم تسمع -يا أخي! - كلام حبيبي وحبيبك محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يقول فيما رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك} .
رُبَّ إنسان أخذ القرآنُ بيده فأدخله الجنة، ورُبَّ آخر دفع القرآنُ في قفاه إلى النار، فهو حجة لك أو عليك.
فهذه المواعظ هي حجة للعبد إن آمن بها وعمل، أو حجة عليه إن أعرض عنها وتنكر لها.
فيا أخي! لا تظن أن المسألة مجرد استماع، أو برامج اعتاد الناس أن يسمعوها، إنما القضية أنك تُسأل يوم القيامة عن أمر علمته، فماذا عملت فيه، سوف يُقال لك: عَلِمْتَ فما عَمِلْتَ؟ وليس صحيحاً، أن الحل هو الإعراض عن الموعظة؛ لئلا تكون حجة عليك، بل إن الذي يعرض عن الموعظة خشية أن تكون حجة عليه، هو أعظم إثماً وجرماً ممن يستمع للموعظة ولا يعمل بها، إنما قد يُعذَر إنسانٌ لم يجد مَن يَعِظُه، ولا من يذكره، ولا من يقرأ عليه كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا من يقرأ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من يبين له الحلال والحرام فهذا قد يكون معذوراً من بعض الوجوه، أما من وجد السبيل، ووجد مجالس الذكر والعلم، ووجد الموعظة، فهذا ينبغي له أن يبادر ويسارع إليها، وأن يجعل من هذه الموعظة سبيلاً إلى القربى إلى الله عزَّ وجلَّ.