من وصاياه -أيضاً- ما رواه الدارمي، عن مروان بن الحكم، قال: لما طعن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم الذين حوله في الجد.
لاحظ عمر طعن في صلاة الفجر، ثم نقل إلى بيته، والناس يبكون، والقضية كلها ساعات محدودة، ثم لفظ نفسه رضي الله عنه وأرضاه، والموقف صعب، صعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن مع ذلك.
فلننظر أمير المؤمنين كيف يتعامل مع الموضوع، يناقش قضايا فقهية، وقضايا علمية، وتفاصيل، كأنهم خلق آخر سبحان الله العظيم! عمر رضي الله عنه وهو مطعون، وحاله كما تعملون، ولما جاءه الطبيب، قال: نسقيك خمراً؟ قال: لا أشربه، قالوا: نسقيك نوعاً من المخدر، قال: لا أشربه، قالوا اسقوه لبناً: فسقوه لبناً فخرج اللبن مع الجرح، فعلم الطبيب أنه ميت -علم أنه هالك- قالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، قال: إن كان الموت بأساً فقد مت {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] هذا ما كان يقوله عمر رضي الله عنه، ولما علم أن الذي طعنه أبو لؤلؤة تنفس الصعداء وأرتاح، وقال: [[الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل سجد لله تعالى سجدة]] كان خائف أن يكون الناس ساخطين عليه لسوء عمل لم يشعر به؛ فقتلوه.
فلما علم أن المؤمنين راضون به، وأن الجميع يبكون حتى كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل ذلك، أرتاح وقال: الحمد لله.
الشاهد أنه كان جالساً يقول للناس كما يقول مروان فيما رواه الدارمي: [[إني قد رأيت في الجد رأياً، يعني مسألة الجد والإخوة وهي قضية تتعلق بالفرائض، يقول: إني رأيت في الجد رأياً، إن بدا لكم أن تتبعوه فاتبعوه، ثم ذكر لهم هذا الرأي الذي رآه]] إنها مسألة فقهية، فرضية، يشرحها لهم أمير المؤمنين وهو على فراش الموت، فقال له عثمان رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فإنه رأي رشيد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك يعني أبا بكر رضي الله عنه فنعم ذو الرأي كان -رأيك حسن، ورأي أبي بكر حسن- وهو اجتهاد، وذاك اجتهاد، وكل إن شاء الله على خير.
ليس قصدي الآن القضية الفقهية، وإنما قصدي أن عمر رضي الله عنه لم يلهه ما هو فيه أن يتكلم عن قضية فقهية، يقول للصحابة ما رأيكم في موضوع الجد والإخوة، وقسمة المواريث، وأشياء من هذا القبيل، وهو يموت.
وهذا دليل على عنايتهم بأمور: أولها: عنايتهم بعلوم الشرع، حتى لو كان في مرض الموت، يحرص على أن يعلم الناس مسألة من الفقه، لعله يخشى أن يلقى الله تعالى، فيسأله الله تعالى: لمَ لم تقل للناس هذا الحكم؟ فحرص على أن يبلغه قبل أن يموت، وكان هذا أمر يهمّ الصحابة، حتى إن معاذاً رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب أحداً منهم مات لا يشرك به شيئاً، قال: قلت يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) } .
لكن معاذاً رضي الله عنه خشي أن يسأل يوم القيامة لِمَ كتمت هذا العلم؟ لمَ لَمْ تبلغ به الناس؟ وهكذا يجب على العلماء أن يبلغوا الناس العلم، ولا يكتموه، وأن يحرصوا على إيصال الحق والعلم للناس بكل ما يستطيعون، هذه ناحية.
الناحية الأخرى: قضية حرصهم على حفظ الوقت، هذا ما دام نَفَسه لم يخرج، وروحه لم تخرج، فهو حريص على أن يستفيد من الوقت، يعلم أو يتعلم، أو يبلغ شيئاً، ليكتب له بذلك أجر.
أما نحن الآن، فالواحد منا صحيح، شحيح، قوي، والوسائل ممكنة، بكل سهولة يستطيع الشاب أن يحصل العلم اليوم، يقرأ كتاباً، يقرأ مجلة مفيدة، يسمع شريطاً مفيداً، يرفع الهاتف ليتصل بفلان أو علان، يذهب ليحضر حلقة الشيخ، يحضر حلقة القرآن، يحضر درساً، يحضر محاضرة، ومع ذلك تجد الشاب يضيع وقته، وربما يذهب إلى مباراة رياضية، أو يسمع أغاني محرمة، أو يقضي وقته في قراءة جرائد، أو قراءة أمور تافهة، أو قيل أو قال، أو ما أشبه ذلك من الأمور، التي يتفنن فيها بعض الشباب في إضاعة الوقت، ولا يعلمون أن هذا الوقت، هو الذي به يجازون، وبه يدخلون الجنة، أو يدخلون النار، والناس كانوا عند الموت يستغلون دقائق بقيت من أعمارهم مثل الطالب -لاحظوا الطالب الآن في صالة الامتحان- طبعاً التشبيه مع الفارق، لكن مثال للتقريب حتى تلاحظوا.
أحياناً بعض الطلاب يكون طالباً جيداً، وحافظاً للمقرر كله، ومجتهداً، فمن حين أن يأخذ الورقة يبدأ يكتب الجواب، ولكن يكتب جواباً مضبوطاً، دقيقاً، مفصلاً، ولا يترك شاردة، ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا يكتبها في ورقة الجواب؛ فتجده يملأ الورقة -هذا شيء نلاحظه ونحن نراقب على الطلاب- فينتهي الوقت المحدد للإجابة، ينتهي، والطالب لم ينته بعد، فتجد الأستاذ يأتي عند هذا الطالب يقول له: باقي خمس دقائق.
والطالب يسرع، يكتب بسرعة؛ لأن الوقت يمضي، الوقت ليس في صالحه، يحاول أن يستغل -خاصة الدقائق الأخيرة- يحرص على الاستفادة منها أكثر مما يحرص على الاستفادة من أول الوقت، فتجده ينازع الأستاذ في الورقة؛ من أجل أن يكتب ولو إجابة، ربما يحصل منها على درجة؛ لأن الطالب حينئذ يشعر بقيمة الوقت، وهكذا كان الصالحون يشعرون بقيمة الوقت، فإذا قربت آجالهم حرصوا على مضاعفة الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيعون، حتى قال بعضهم: والله لو أعلم أني أموت الليلة ما كان عندي مزيد.
يقول: بذلت، ثم بذلت، ثم بذلت، ثم ملأت وقتي بالأعمال الصالحة، حتى لو قيل لي: إنك الليلة سوف تموت.
ليس عندي شيء جديد أضيفه، كل وقتي صرفته فيما يرضي الله عز وجل، ليس عندي مزيد.