فتنة النساء

المحنة الثانية: فتنة النساء، فهو في قصر العزيز رئيس الوزراء، في قصره الفخم الضخم المشيد: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] إنه امتحان عظيم عسير، يوسف عليه السلام شاب وفي الشباب قوة وشِرَّة وشهوة واندفاع، والشهوة أحياناً تغطي العقل حتى يسير الإنسان أسير شهوته وهو لا يبصر ما أمامه، ويوسف عليه السلام كان شاباً وهو كان عزباً أيضاً لم يتزوج، والمتزوج ربما وجد في زوجته ما ينهي شهوته أو يدفعها أو يدافعها أو يؤجلها، ولكنه كان شاباً عزباً، وهو أيضاً كان غريباً والإنسان في وطنه ربما يمنعه في الوقوع في المحذور خوف الفضيحة والمعرفة والأقارب والأهل والجيران، أما الغريب فهو أجرأ في الوقوع في المعصية وأبعد من الفضيحة، ولهذا تجد الكثيرين إذا هموا بأمر سوء ذهبوا إلى بلاد بعيدة ليفعلوا ما يفعلون بعيداً عن أعين الرقباء، وعن أعين الأهل والمعارف والجيران والأصدقاء والزملاء، وهو أيضاً كان في صورة العبد المملوك، والعبد المملوك جرت العادة أن يؤمر فيطيع، ويوجه فيمتثل وهي كانت سيدة.

فكان موقفه في نظر الناس ضعيفاً ولكنه في الحقيقة قوي، أما المرأة فكانت ذات منصب فهي -إن صح التعبير- سيدة البلاد الأولى زوجة العزيز، فهي ذات منصب وثانياً هي ذات جمال، وما اختار العزيز امرأته إلا وفق معايير في الحسن والجمال مضبوطة معروفة، فهي ذات منصب وجمال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم فيمن يظلهم الله في ظله: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وهي أيضاً المطالِبة بالأمر، فإن المرأة في العادة تكون مطلوبة لا طالبة، والرجل قد يعرض عن طلب المرأة خشية أن ترده، ولكنها الآن هي التي تطلبه وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وهي أيضاً في بيتها، في بيت العزيز في القصر وفي خلوة وقد غلقت الأبواب، فأمنت من أعين الرقباء ومع ذلك مارست معه أسلوب الترغيب والترهيب: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] .

فاستعلى يوسف على هذا كله ونجح في هذه المحنة الثانية؛ وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] إذاً: استعان يوسف بربه عز وجل، وسأله العصمة وقال -والله تعالى يعلم أنه صادق-: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] .

نعم.

الشهوة مركبة في كل إنسان وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية؛ أن يوسف عليه السلام تزوج هذه المرأة بعدما مات العزيز، فدعاها مرة فأبت، فقال: كنت تطلبينني في الحرام والآن أنا أطلبك في الحلال فترفضين! على كل حال هذه روايات إسرائيلية، فإذا صحت هذه القصة؛ فإنها تؤكد هذا المعنى الذي لا شك فيه، وهو أن الإنسان بطبيعته عنده شهوة وعنده ميل، ومنظر المرأة الجميلة يشده ويأسره لكن الإيمان هو الذي يعصمه: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فالذين صدقوا الله تعالى وتعرفوا إليه في الرخاء تعرف الله إليهم في الشدة فحفظهم.

كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من أن يتعرض شاب في مثل هذا الحال إلى فتنة وإغواء وإغراء، وهو يتعرض للتهديد والوعيد إن لم يفعل، بل وتنقلب المسألة عليه: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] لقد قلبت امرأة العزيز الأمر وزعمت لسيدها أن يوسف راودها عن نفسها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015