هذا يكثر المعترفون عند الموت؛ بل ما من عبد ينزل به الموت إلا واعترف واستغفر، لكن شتان بين من يعترف طالباً للمزيد، وبين من يعترف بعدما أفلتت من يده كل الفرص! فشتان بين الإمام الشافعي وبين شاعرٍ كـ أبي نواس فالإمام الشافعي لما نزل الموت به تلفت فيمن حوله، ثم أراق قطرة من دموعه، ثم قال: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل شد إزاره على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بل للراجين سؤلاً ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني وما زلت مناناً علي ومنعما عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما ثم فاضت روحه الطاهرة رحمه الله.
فماذا عمل الإمام الشافعي؟ إنه قضى ليله في الصلاة ونهاره في طلب العلم، وكان صاحب تقوى وعباده، إماماً في الفقه، إماماً في الحديث، إماماً في الزهد، إماماً في التقوى، إماماً في الورع، ومع ذلك هذا اعترافه وهذا ذنبه وهذا ندمه؛ لأنه ما من عبد ينزل به الموت إلا ندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع عن إساءته ومعصيته، كما جاء في الأثر.
فشتان بين رجل -كالإمام الشافعي - هذا اعترافه في تلك اللحظات الأخيرات، وبين رجل -كـ أبي نواس - ملأ الدنيا ذنوباً ومعاصي، وما من جريمة إلا وله فيها سهم ونصيب، وامتلأت كتب الأدب بقصائده وأشعاره وقصصه وأخباره، وغير ذلك مما يطول به الوقت ويضيق عنه الحصر؛ ثم إذا بالموت يصرعه، فيتلفت أين أصدقاؤه؟ أين ندماؤه؟ أين قيانه؟ أين الكئوس؟ أين الجلوس؟ كل ذلك فر عنه، وبقي يصارع الموت وحده! -وحينئذٍ: علم أنه لا باب إلا بابه جل وعلا، الذي ما رد طالباً، ولا رجع عنه أحد خائباً من قرع بابه بجد؛ فتح الله تعالى له وأجابه، فنظر هذا الرجل فحاول أن يستدرك فصاح: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم رب دعوت كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم إن العبيد لا يتحجرون رحمة الله تعالى، وقد قبل الله تعالى رجلاً قتل مائة نفس، وما عمل خيراً قط سوى أنه ذهب إلى بلد صالح ليتوب ويعبد الله عز وجل؛ بل إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال جبريل: {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من وحال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة!} .
فلما غرق فرعون في اليم قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91-92] فجبريل خشي أن تدركه رحمة الله تعالى حين نطق بكلمة التوحيد؛ فكان يأخذ من طين البحر فيدسه في فمه لئلا يكرر هذه الكلمة، أو يستغفر الله تعالى في تلك اللحظة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} .
لكن أيها الأخ الكريم: ما الذي يدريك أن تتمكن من توبة صادقة وأنت على فراش الموت؟ ربما يحال بين العبد وبين ما يشتهي، وبينه وبين ما يريد، كما فعل بأشياعه من قبل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة} .
لكن كم من إنسان حيل بينه وبينها! فلما أراد أن يقولها ثقل لسانه، أو جرى على لسانه ما كان يردده في حال حياته، -كأغنية، أو كلمة فاجرة، أو ما أشبه ذلك- وربما مات على غير ملة الإسلام! -والعياذ بالله تعالى من ذلك- ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
فإن العبد إذا عاش على الإسلام؛ مات عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من الموت، فإن عرف العبد ربه في الرخاء فذكره، وشكره، وصلى، وصام، وتاب إليه، وأقلع عن معاصيه، وأكثر الاستغفار؛ رحمه الله تعالى في الشدة الكبرى عند الموت؛ فختم له بخير أما إن كان من المسرفين على أنفسهم، فيخشى أن يحال بينه وبين التوبة في آخر لحظة يمكن له فيها أن يعترف.