الخوف من الناس

فمثلاً: إنسان عنده وسواس -ولا شك أن الوسواس نوع من الخلل- فتجد أن هذا الموسوس يخاف من الكفردائماً، فيقول لأخيه: أنا قلت كذا، فهل يعتبر هذا كفر؟ فإن قلت له: لا، وأتاك بعد فترة، وقال: أتيت وكان في قلبي كذا، فهل يعد هذا من الكفر؟ تقول له: لا، وربما سألك في اليوم عشرين سؤالاً كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟ فنقول لهذا: أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب الشبهة، فضلاً عن الحرام، فضلاً عن الكفر! فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟ لكن هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته، فصار عنده خلل في إدراك الأشياء وتصورها، وتخيلها ومعرفتها.

تجد بعض الناس يخاف من الطلاق، حتى إن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان، فيلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة تسبقها فزوجتك طالق! مجرد خاطر! فتجده يسرع بقوة حتى يسبق هذه السيارة! فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان في قلبه وَهماً أنه إذا لم ترجع من عند هذه الإشارة وتأخذ الدورة -مرة أخرى- من عند الرصيف فزوجتك طالق! فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟! وعمَّ تبحث؟! مجرد أوهام يلقيها الشيطان نتيجة خلل في النفسية واضطراب، وعدم وضع الأمور في مواضعها.

هذا نموذج قد يكون واضحاً وربما يضحك البعض منه؛ لكن خذ أمثلة مشابهة، قد لا تضحك منها، تقول أنا مبتلى بها-مثلاً- الخوف من رجال الأمن، والخوف من أجهزة المخابرات، وأجهزة المباحث، تجدها ترسم بصماتها -أحياناً- على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ الخوف في كل حركة وفي كل لفتة، وفي كل نظرة، يخاف من المباحث، ويخاف من الاستخبارات، ويخاف سواء الدول العظمى أو غيرها.

حتى يقول أحدهم وكان إنساناً أخطأ فهرب، فيقول معبراً عن هذا المعنى بالضبط يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامةٌ لقلت عدو أو طليعة معشرِ فإن قيل خيرٌ قلت هذي خديعةٌ وإن قيل شرٌ قلت حق فشمرِ أي: إن جاء أحد يطمئنني ويقول: اطمئن الأمور على خير، قلت: هذا يخدعني، هذا مرسل ليخدعني، وإن جاءني أحد يقول: خف وأهرب، الطلب في إثرك، قلت: هذا صادق؛ ثم شمرت وركضت من الخوف.

وآخر يقول: حتى صدى الهمسات غطاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن والثالث يقول: لو كنت أستطيع… أن أقابل السلطان قلت له: يا حضرة السلطان! كلابك المفترسات دائماً ورائي كلابك المفترسات مزقت حذائي ومخبروك دائماً ورائي أنوفهم ورائي عيونهم ورائي آذانهم ورائي كالقدر المحتوم كالقضاء يستجوبون زوجتي… ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي.

والرابع الذي يقول: إن هناك مخبراً يدخله مع الشهيق، ويرسل التقرير مع الزفير كما يقول.

وهذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة إنما بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى وبعض المصابين، فتجد أنه يخاف من كل شيء، ولا يعمل شيئاً.

تخايله الأوهام دائماً وأبداً، وبالعكس تجد أحياناً دولاً أو مسئولين في دول أو شخصيات، تجده يخاف من الناس، يخاف من شعبه ويفسر كل حركة، وكل خطوة، ولكل سكنة، وكل محاولة، وكل شيء بأنه ضده، وأنه المقصود منها، فتجده يواجه هذا، ويحارب هذا، ويفرق المجتمع، ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف.

فهذا الخوف: هو في كثير من الأحيان، عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي يتصور أنه يستطيع أن يؤذي الناس أو يبطش بهم أو يشكل أو يكمم الأفواه وما أشبه ذلك، ولكن هيهات!! وهذا ما يسمى -أحياناً- بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، وهو: شعورك بأن كل شيء مؤامرة، ومخطط ضدك، أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام، أو ضد جماعة بعينها، نعم نحن ندرك بأن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا، ونعرف كيف يفكر، وكيف يعمل، وحتى لا نبالغ، فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء، ونشخصها، وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضاً مرات أخرى.

وهناك فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته، وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك، فتتصور أن كل شيء وراءه مؤامرة، حتى لو كان شيئاً صالحك تخيلت أن وراءه مؤامرة فتوقفت عنه، مثل إنسان يقدم له طعام جيد، فيقول: يمكن أن يكون في هذا الطعام شيء.

إذن لا داعي لأكله، فيتركه خوفاً أن يكون وراءه شيء، فيحرم نفسه بذلك من خير قد أتيح له.

وينبغي أن تدرك أن الأعداء وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل الـ C.

I.

صلى الله عليه وسلم هذه المخابرات الأمريكية، أو الموساد الإسرائيلية، أو المخابرات الروسية أو أي جهاز مخابرات في العالم، بل الدول بنفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب، حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة؛ لأنه يشعر أنه ضعيف لا يملك شيئاً، في حين أنه يواجه عدواً مدججا يملك كل شيء، ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز، أو في الفيديو، وأكثر من يشاهدها الأطفال من مسلسلات الرعب، التي تغرس في نفوس الأطفال المخاوف، حتى إن أحد المستشفيات استقبل في أسبوع أكثر من أربعين حالة نفسية لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز.

والكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية وأعمال الجاسوسية تعد بالآلاف، بعضها حقيقية، وبعضها خيالية، ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب لأن الخوف - أحياناً - يريحهم من أشياء كثيرة.

فإذا كان مجرد الخوف منعك من العمل، ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام، فلا يحتاجون بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة.

ويقومون -أحياناً- بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية.

وأقرب وأوضح مثال: اليهود، الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود: القوة الخفية في العالم، اليهود الذين يملكون الاقتصاد، ويملكون الإعلام، ويملكون أمريكا، ويملكون روسيا، واليهود الذين يملكون التصنيع، حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل عمل، وسبب كل شيء وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وكذلكروسيا والعالم كله كذلك.

وبناءً عليه فلا داعي أن نواجه اليهود، وليس هناك أمل في الانتصار عليهم! إذاً: لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذي سعوا إلى رسمها في نفوس المجتمع حتى يبقوا خائفين؟ ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة، خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط ناجحة في الحرب النفسية، في مجال الإعلام والمخابرات، فلا غرابة أن يخططوا لمثل ذلك، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وَهم! والأمر كما قال أحد الكتاب: اليهود لا يصنعون الأحداث ولكنهم يستغلونها، فهم أعجز من أن يديروا كل شيء، ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث -بقدر الإمكان- لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة، ولديهم تغلغل في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله بعض التمكين.

لكن مع ذلك أقول: الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية.

ومثل ذلك قصص التعذيب، فكثير من الشباب -شباب الدعوة- أول ما يبدأ في القراءة، يقرأ -مثلاً- كتاب البوابة السوداء، في الزنزانة لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه في غياهب السجون؟ وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون جمال عبد الناصر وألوان التعذيب أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر.

فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضاً طرياً نشأ على هذه المعاني، وعلى هذه المفاهيم، فولد عنده رعب وخوف ونشأ على نوع من الضعف والهزيمة، فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل، ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف، خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه، وأكثر من قراءته، فالغالب أن هذا يحدث عنده أثراً سلبياً.

إذاً لا بد من تحطيم هذه المخاوف، وهذه الهيبة، والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور.

ولماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟ وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية، عن بداية سقوط أمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين بل بأقلام أمريكان.

ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب اسمه: صعود القوى العظمى وانحطاطها، يتكلم عما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول: إن السُّنة ماضية، وأمريكا تسير على الأثر، ثم رصد عدداً من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعسكرية التي تؤكد أن أمريكا سوف تتفكك وتنهار، بطريقة أو بأخرى كما انهارالاتحاد السوفيتي.

فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى؟ حتى نزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض، والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن على كل ما يقع في هذا الكون، حتى تحولت إلى شبح رهيب ليس في نفوس البسطاء والسذج! بل في نفوس الساسة أحياناً!! وفي نفوس المفكرين! وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين! ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها! ويسبحون بحمدها! ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيئاً لا عهد للتاريخ بمثله، لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوطأمريكا؟ هذا السقوط الوشيك، بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات الأمر يسير-إن شاء الله-!! لماذا لا نتكلم عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية، أو من خلال النصوص الشرعية؟ لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر؟ وأن جميع أجهزة البشر وإمكانياتهم مهما بلغت في القوة والدقة فهي ضعيفة؟! ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت -ولكن ليس هذا هو الموضوع- المهم: أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل، ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جداً وأنهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماماً وعلى حقيقته بل يدركون شيئاً منه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] .

وبالمقابل لا بد من تعظيم الله

طور بواسطة نورين ميديا © 2015