من ألوان الخوف وهو نوع من الحيل النفسية: الخوف من الفشل، فتجد الإنسان لا يقوم بأي عمل، يقول: أخشى من الفشل! أقترح عليك أن تقوم تلقي كلمة، قال: أخاف أن أخطئ باللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا تقوم لي قائمة! لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها ويستفيد من ورائها المسلمون؟ قال: أخاف من الخسارة.
إذاً هذا الخوف يمنع الإنسان من أي عمل، وبناءً عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدراً من التضحية، وقدراً من المغامرة.
فالعمل التجاري خاصة إذا كان عملاً مدروساً قد يفشل فعلاً، لكن كم نسبة فشله؟ قد تكون (10%) ، وهذه النسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل فالنتيجة: ربما تخسر عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرين ألف ريال فقط! وتستطيع أن تسددها، وليس معنى الفشل أنك خسرت الدنيا والآخرة، ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيراً خيالياً.
والكلمة التي نطالبك أن تلقيها أمام الناس، تقول: يمكن أن أخطئ، فإذا أخطأت سيكون ماذا؟ سأستحي وأخجل، لكن هذا الخجل سينتهي خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوعاً، ثم في الأسبوع الثاني ربما تكررالمحاولة، ولا تعود إلى الفشل بإذن الله تعالى، ومع ذلك نقول: ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام، وتعده إعداداً جيداً حتى تطمئن -إن شاء الله- أنك لن تخطئ، وإن كان خطأً فسيكون خطأً يسيراً ويمكن أن يحتمل -مثل أن يكون خطأ في اللغة-.
حتى لو تصورت السباحة، كم شخصاً لا يجيد السباحة؟ ولماذا؟ وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب.
فإن الحيوانات تسبح -تلقائياً- إذا وضعت في الماء، لكن تجد الإنسان؛ لأنه تعلم الخوف تجده يخاف ولا يسبح لأنه يخاف من الغرق، وبهذا الخوف توقف عن أي عمل إيجابي ومثمر.
إذاً فلا بد أن تعمل أعمال الخير؛ بل أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولأن تعمل باجتهاد ويتبين لك فيما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد ولا تعمل، الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلاً، فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت أنك أغظت هذه المرة في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من الشخص الذي لم يأمر بالمعروف، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لأنك استفدت درساً من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى، والحكمة، والكلمة الطيبة، ولن تغلظ لأحد بقول ولا فعل، لكن ذاك الإنسان الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر قد قصر في أصل الواجب، وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، ولا تقف عند الخطأ، بل صحح الخطأ وواصل.
ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل وخوف الفشل من سيما المنافقين، فإياك أن تكون منهم: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] فإذا خضنا معركة وقتل منا من قتل، جاء أحد، وقال: قتل هؤلاء ونزفت دماءهم! لوأطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران:168] .
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره قتل هؤلاء في المعركة شهداء في سبيل الله، كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت؟ كم يقتل في سبيل الدنيا؟ كم يقتل من مهربي المخدرات؟ وكم يقتل وكم؟! أعداد غفيرة من الناس، ثم كم يموت بالمرض؟ وكم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر؟! أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا؟ فإن الموت حتماً على كل إنسان.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا * لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:153-154] نحن لم يكن رأينا الخرج إلى المعركة، كان رأينا أن نجلس في المدينة فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشارنا ما قتلنا هاهنا: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] .
إذاً: المؤمن بالقضاء والقدر لا يأتي دائماً وأبداً ويقول: لو ولو…!! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في نفس الحديث الذي سقته سابقاً حديث أبي هريرة: {لا تعجز} فهناك عن العجز، ومن أسباب العجز الخوف من الفشل.
ولذلك قال: {وإن أصابك شيء -أي عملت ووقع عليك شيء- فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان} .
من صور الخوف أيضاً: الخوف من النقد والتبرم به، فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلاً، أو تجد بعض الناس يستكبر على النقد، ويتعجرف على أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا: من ألَّف فقد استهدف، أي أنك إن كتبت كتاباً وقدمته للناس فسيقرؤه مئات أو ألوف، فهذا أعجب بالكتاب، وهذا لم يعجبه، وهذا أعجب به ولكن عليه بعض الملاحظات، كل هذا شيء طبيعي.
وحينما تلقي درساً أو محاضرة، سيقول هذا زاد، وهذا نقص، وهذا أخطأ، وهذا لحن، وهذا أفرط، وهذا فرط إلى آخره، وهذا شيء طبيعي، فأنت عندما تقوم بأي عمل ضع في اعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية كالتجارة، سيقول لك أحدهم: والله يا فلان لو كان المتجر في المكان الفلاني لكان أفضل! وآخر يقول: العامل الذي وضعته هنا غير مناسب، أخلاقه سيئة، وغير مأمون! إذاً فأنت عرضة للنقد، فينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لتقبل النقد، واستعداد للتصحيح -أيضاً- لأن الناقد -كما يقول بعضهم- يفترض الكمال فيما قلت أو فيما فعلت، ولهذا يطالبك بالمزيد.
ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومه: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ما رأيك في إناء تشترك في غسله أيادٍ كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لا بد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين.
ومن ألوان الخوف: الخوف على المكاسب: فهذا موظف كسب في وظيفته مستوى معيناً، أو رتبة معينة، فتجده لا يحاول أن ينتقل إلى إدارة أخرى، لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصل عليها من إدارته، فيقول أنا أقمت علاقة جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا! فهذا قد يقع، لكن -أحياناً- تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين عمل أفضل لك.
كذلك التاجر إذا اقترحت عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وأفضل خاف! حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتي وتقول له: يا فلان أنت تتاجر بالمسامير! الناس الآن بنت الدور وملكت القصور، وأنت رجل عندك عقل وتفكير وكذا فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع المسامير أنه سوف يموت هو وأولاده جوعاً، لأنه حصل على كسب بسيط، وهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع! مثله داعية قام بعمل طيب لكن هذا العمل محدود، مثلاً أقام مكتبة، ونشط في هذه المكتبة، وهدى الله على يديه أفراداً من الحي، فتقول له: يا أخي أنت ليس من حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت من حقك أن تخاطب بلداً أو أمة بأكملها، قال لك: نعم، لكن عندي هؤلاء العشرة، وهؤلاء أخاف عليهم أن يضيعوا، ليس لهم أحد غيري.
فالخوف على هذا المكسب تسبب في أنه يفوت على نفسه خيراً أكبر وأعظم، قد يكون هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته، لكن أحياناً قد تجد الإنسان يمتلك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها، لأنه ارتبط بهذا الواقع أو هذا الوضع، فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي ولكنه محدود.
فهذا يمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه موهبة، فخسرنا بذلك وخسر هو أموراً أكبر لماذا؟ لأنه دائماً يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها، ولذلك كلما قيل له تعال إلى هذا الميدان، قال: لا، أنا أخاف على فوات بعض ما كسبت.
فلا بد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم: قل خيراً يقله الله عز وجل، ونحن لا نقول هكذا، لكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح: {أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء} فَظُنَّ بالله خيراً.
واعتقد أن الله سفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرُت همتك، واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل من مكسب إلى مكسب، ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول: هذا يكفيني.