وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء، أو باحتقار، أو يهضم نفسه، أو يوبخها- هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري، بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بعجب، ولا غرور، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح [إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على وجهه، فقال به هكذا بيده فطار] .
إذن لا نعيب عليك أن توبخ نفسك، ولا أن تزدريها، ولا أن تحتقرها، فهذا لا شيء فيه، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك، فإذا قلنا لك: يا فلان تول أمر المسجد وصلِّ بالناس! أو درّس، أو اشغل هذه الوظيفة المهمة، أو ألف كتاباً، أو ألق محاضرة، أو درساً، أو مر بالمعروف وانه عن المنكر هززت رأسك، وقلت الله المستعان! "لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني" فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل، وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، لكن المشكلة أن يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح، مثلاً أبو الوفاء بن عقيل، صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد، وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه، نقله ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر وقال ابن الجوزي بعدما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال: وقد رأيت الإمام أبو الوفاء بن عقيل ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها هاهنا، ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل؟ قال كلاماً طويلاً مقصده أن أبا الوفاء بن عقيل يخاطب نفسه ويقول: يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت أن يقال لك: إنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، وعما قليل تترك ذلك بالموت، بل وحتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب أقوى منك عبارة، لربما موهوا له بالقول، وركضوا وراءه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك، ثم قال: " والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها، فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا، وعما قليل أموت، فيقول الناس: مات الرجل الصالح العالم الورع التقي، ووالله لو علموا حقيقتي ما دفنوني " وكلام من هذا القبيل طويل.
ثم قال: " والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله تعالى أن يرحمني بذلك " ولعل الكثير منكم يحفظ نونيه القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان إلى آخر قصيدته.
لكن
Q أن أبا الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم؛ حتى الصحابة رضي الله عنهم، لهم كلام كثير في ازدراء النفس، فهل هذا الشعور بالنفس جعلهم لا يعملون ولا يجاهدون، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؟ لا! أبو بكر هو الخليفة، وأمور المسلمين كلها في عنقه، ومع ذلك وكثيراً ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال: [[اللهم اغفر لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون]] وكثيراً ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه يوبخها ويذمها.
ومثله عمر الخليفة وتعرف ماذا فعل عمر؟ رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك كان يقول: [[بخٍ بخٍ يـ ابن الخطاب! بالأمس ترعى غنم الخطاب واليوم أمير المؤمنين! والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] .
إذاً فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة عن العجب والاغترار، وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح، ولا تمارس أي دور.
وكلام أبي الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني، ومن قبلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يمنع آخرين من أن يتكلموا مما وهبهم الله من الخير والنعم، لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل:83] فأول مراحل شكر النعمة المعرفة، فإذا كان الله قد أعطاك مواهب فلا بد أن تعرف هذه المواهب، حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكراً لنعمة الله عليك.
فهذا يوسف عليه السلام نبي الله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد اختصه بهذه المزايا، بن عباس يقول: [[أنا من الراسخين في العلم في قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] وفي قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال: أنا من القليل الذي يعلمه]] فلم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.