بيان منهج المحاضرة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فشكراً للمركز الصيفي بجامعة أم القرى بالطائف على تنظيمه لهذه المحاضرة وحرصه عليها -وجزى الله تعالى- القائمين على هذا المركز خير الجزاء، على جهدهم ومشاركتهم وتبنيهم لهذه المحاضرة في مركزهم.

وهذه ليلة الجمعة التاسع من شهر صفر، من عام (1413هـ) والعنوان كما علمتم: "الحيل النفسية" وأود أن أقول للإخوة في البداية إن هذا الموضوع: استكمال لموضوع كنت قد بدأته من قبل، وخرج بعنوان: (الأمة الغائبة) .

ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضاً مثل سابقه، فهو عبارة عن مطالبة بالمشاركة، أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك، أيها القاعد بين أيدينا! لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلاً معيناً، ولا مقداراً معيناً، ولا حجماً معيناً، لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع، لأننا نعلم: أولاً: أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنساناً، وكلمة إنسان بذاتها قبل الدخول في أي لفظ شرعي يقول أهل اللغة: هي مشتقة من النوس، ناس ينوس إذا تحرك، إذن أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولاً بهذا.

ثانياً: لا نشترط قدراً معيناً، لأننا نعلم أن الناس ليسوا نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا! فالذي في كبينة القيادة هو شخص واحد، أو اثنان، والبقية هم أفراد.

لقد حرصت أيها الإخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسوا هم النخبة أو علية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة، كلا! بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم، بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي، الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.

ومن قبل كان ابن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه: " ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ، قليل اللحظ، لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني " أي: أنه يذكر معان مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها، وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار، ومن بعده كان الإمام الشاطبي يقول: " إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق، متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي ".

إذاً: لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي، بقدر ما أمامنا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحياناً، وينبغي أن نكتشفها ونفضح أنفسنا أمامها، ونضع أنفسنا أمام الحقيقة وجهاً لوجه، ولا نبقي عذراً لمعتذر ينبغي أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.

إذاً: فلا تنتظر مني استكمالاً للموضوع ولاتطويلاً فيه، ولا تنظيراً؛ بل ولا حسن ترتيب، وحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله، وتوقن بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.

وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن العجز واستعاذ منه، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} فهذا نهي: (ولا تعجز) ، فاحتفظ بكلمة العجز، حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.

ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عن جماعة من الصحابة مثل أنس بن مالك أو غيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز: {أعوذ بك من العجز} والحديث جاء عن أنس وزيد بن أرقم وهو في الصحيح وغيره، وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز موجودة في مواضع منها: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31] فهنا يبرز أمامك العجز.

فالعجز إذن مرض سببه الغفلة، وعدم الاهتداء، حتى إن هذا الإنسان لم يكن عاجزاً عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغراب يبحث في الأرض، فاستيقظ وتنبه، ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له، ويسبقه إلى هذه القضية، فيحفر في الأرض فقال: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31] .

ولذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحياناً، لأن هذا الإنسان كان معتدياً، فالاعتداء غلّف قلبه، وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض ليدفن أخاه.

فالزيادة، أو النقص، أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سبباً في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود عن العمل، ولذلك وصف الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين الذين هربوا وتولوا من المعركة، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] .

فالإنسان يتعلم حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو، حتى تروى هذه القصة عن سيبويه أو غيره، ففشل مرة أو مرتين وثلاثاً، فبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت تسقط ثم تكرر المحاولة، فتلقن من ذلك درساً أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستفيد حتى من الحيوان، أو الطير، أو غيره.

وهذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه -أحياناً- بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية، وهو داء في القلب أو في النفس، لكن قد لا يصل إلى حد الضرورة كما قد يفهم البعض أن صاحبه مريض مرضاً نفسياً، أو مجنون لا، لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس، سليم القلب، ملتزم بالكتاب والسنة، كثير الإقبال عليهما، شديد التوكل على الله، فتجد أن موازينه وحساباته مضبوطة، وآخر: أعماله النفسية كلها غير طبيعية، بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده، فتجد مثلاً قضية الإدراك غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكاً صحيحاً ولا يتصورها تصوراً صحيحاً، ولا يتذكرها، ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها؛ ولذلك يخطئ الحسابات -كما سيأتي أمثله لذلك بعد قليل- وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.

وأحياناً تجد إنساناً قاعدة لا يعمل، ولو قلت له لماذا لقال: عسى الله أن يهديني! فأنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها، لكن آخر تجد أنك إذا حادثته لماذا لا تقدم شيئاً؟ بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحياناً، أو بصورة الفهم، أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع، كما سوف يبدو لك، فما هي هذه الأعذار التي نتستر وراءها -أحياناً- حتى نترك العمل؟ وقبل أن أذكرها أود أن أقول لك شيئاً؛ حتى تدرك هل أنت تعيش نوعاً من الحيل النفسية أو لا؟ تصور -وأنت قاعد بين يدي الآن- هل تشعر أن الكلام هذا موجه لك مباشرة أو تشعر أنه يعني أناساً آخرين غيرك؟ فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك، لكن إن كنت تشعر أن المخاطبين أناس موجودون في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه هي بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015