الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] .
إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص.
فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن:22] وكما قال أيضاً: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] .
فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} * {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا} [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .
هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .
وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك.
وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم: الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله: بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم بني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم بني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم بني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم بني أبي بكر يرى العزم في الذي يزول ويفنى والذي تركه غنم بني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم بني أبي بكر كما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم بني أبي بكر وأمثاله غدا بفتواهم هذي الخليقة تأتم وليس لهم في العلم باع ولا التقى ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم فوالله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم ماذا تظن؟ هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟ كلا والله! بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه.
إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك.
إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين.
أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] .
وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات: الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً.
إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض.
فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف وهذه نفسها كلمات السابقين {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر.
والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية وهذا مقبول.
نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى.
إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] .
إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] .
وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ويقول سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ