جانب آخر أيضاً مكنه من قيادة الأمة، وهو: أن العز بن عبد السلام رضي الله عنه كان باذلاً لعلمه، ليس مجرد موسوعة علمية لا يحصل علمه إلا إذا فتح درساً أو سُئل، بل كان دائماً يبذل العلم، ولذلك من الأشياء الملفتة للنظر أنه حتى الملوك في ذلك العصر كانوا ذوي علم رفيع وثقافة عالية.
فعلى سبيل المثال كان منهم غيورون على الإسلام يدركون أن الإسلام يحارب من الشرق بالتتار ومن الغرب بالصليبيين، وأنه لابد من حماية هذا الإسلام والدفاع عنه، وكانوا يدافعون عن الإسلام بكل ما يملكون.
وكان منهم أناس يمكن أن نصفهم بأنهم من العلماء، بنوا المدارس، وأقاموا الإسكانات للطلاب، والأوقاف، والمكتبات، والجامعات، والمدارس التي كانوا يسمونها مدارس الحديث ودور الحديث والفقه وغيرها، وحرصوا على تنمية القدرة العلمية للأمة، وكان منهم علماء نور الدين كان متبحراً في العلم حتى أنه ألف كتاباً في الجهاد، وبعده صلاح الدين، فقد كان حافظاً للقرآن، ويحفظ مع القرآن كتاب التنبيه في الفقه الشافعي ويحفظ أيضاً ديوان الحماسة، هذا صلاح الدين! وكان في كل مجلس يحضر الفقهاء والمحدثين والمؤرخين ويقرءون عليه القرآن والفقه والحديث والتاريخ وغير ذلك.
الملك الكامل كان عالماً أخرج أربعين حديثاً صنفها في كتاب بإسناده، وله تعليقات على صحيح مسلم.
فإذا كان حال علية القوم فمن دونهم كذلك، فكان العلم مبذولاً وكان الذي يتولى هذه الحركة العلمية هم العلماء، وهذا يكشف لنا عن سر وهو أن بضاعة العلم رائجة.
ولذلك الذين يملكون هذه البضاعة وهم العلماء لهم رواج، ولهم مكانة، ولهم ثقل في الأمة، أما إذا كانت الأمة يخيم عليها الجهل، فيصبح العالِم هنا -كما يقولون- مثل الريحانة في وسط النتن، لا يعرف الناس ما عنده، ولذلك لا يهتمون له، ولا يسعون إليه، ولا يقدرونه، لأنهم لا يعرفون البضاعة التي عنده.
أرأيت لو أن مجموعة من الناس، جهلة، بدائيين لا يعرفون شيئاً فجاءوا إلى رجل عنده ذهب وهم جياع مثلاً فقال لهم: عندي ذهب، فإنهم لن يلتفتوا إلى هذا الذهب، فهو والبعر عندهم سواء، لا يعرفون قيمته! فهكذا الأمة إذا عاشت بجهل فإنها لا تقدر العالم ولا تعرف بضاعته، لذا فمن أعظم الوسائل لربط العالم بالأمة وربط الأمة بالعالم: نشر العلم والقعود للتدريس، والإفتاء، والتعليم، وأن تكون الأمة كلها في حركة لا تتوقف.