إن كثيراً من الطلاب في هذا العصر، وهذا أمر مشهود يعنون عناية بالغة جداً ببعض الجزئيات، ويشغلون أنفسهم وغيرهم ووقتهم وجهدهم فيها، وهذه الجزئيات فرق بين أن نقول للناس: هذه -كما يقول البعض- قشور، اتركوها، لا تشغلوا أنفسكم بها، فهذا لا نقوله، ومعاذ الله من ذلك، فليس في الدين قشر ولب، لكن أيضاً لابد أن نعرف أن الدين فيه أصول وفروع، وفيه أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وهناك أشياء كليه وجزئية، وفي أشياء تقدم على غيرها، فكون طالب العلم -مثلاً- بداية طلبه للعلم هو أن يشغل نفسه-مثلا- بالإصبع في الصلاة يعني في التشهد وبين السجدتين، كيف يحرك؟ فتجد بعض طلاب العلم يحركونه باستمرار، ثم تجد آخرين لا يحركونه أبداً بل يتركونه، تجد نوعاً ثالثاً يرفعونه بصفة مستمرة ولا ينزلونه أبداً، فئة رابعة يحركونه مع حنيه شيئاً ما، فئة خامسة -وهذا حدثني فيه أحد الإخوان أنه رأى أحد المبتدئين في العلم يفعله- يحرك إصبعه بصفة كأنه يرسم دائرة، وحين سأله عن حجته في هذا الفعل قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، فهو يظن أن التحليق أنه يرسم حلقة بإصبعه هكذا والواقع أن تحليق إصبعه، أنه كان يضع الإبهام مع الوسطى هكذا، هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا الشاب حين أرشده إلى الحق قبله منه، وهذا أمر حسن بلا شك، هذه المسألة لا باس أن يعرف الطالب فيها ما هو الحق، لكن أن يكتب عشرات البحوث في هذه المسألة ما بين كتب مطبوعة، وبحوث منشورة في عدد من المجلات الإسلامية، وبحوث لم تنشر، وربما تسيطر على وقت الشباب في عدة جلسات، في حين أنك قد تناقش بعض هؤلاء الإخوة في مسائل أصولية، وفي قضايا مهمة وكبرى فتجد أن كثيراً منهم لا يفقهون فيها شيئاً، هذا مثال.
من الأمثلة جلسة الاستراحة كثيراًَ ما يشغل الشباب أنفسهم ببحث هذه المسألة، نظراً لكثرة الاختلاف فيها وشدته، ومن الأمثلة تقديم اليدين والركبتين في حالة السجود، هذه الأمثلة والمسائل نقول: لا شك أن فيها خطأ وصواب، وفيها راجح ومرجوح ولا بأس، بل ينبغي لطالب العلم أن يبحث عن الراجح بدليل هذا كله لا غبار عليه، لكن أن يصبح حظنا من الفقه هو أن نأخذ هذه المسائل التي هي معترك الأقران، ونشغل بها وقتنا وعمرنا وكتبنا ومجلاتنا ومجالسنا، فهذا ليس من الحكمة ولا من العدل، بل العدل يقتضي والحكمة أن تضع الأمور في مواضعها، وهذه الأمور الأمر فيها واسع، ولا ينبغي أن نشدد فيها على الناس، جلس الإنسان جلسة الاستراحة أو ما جلس فهو سنة، وإن ما جلس فهو ترك سنة، قد لا يعتقد أنها سنة، بل قد يعتقد أنها مكروهة كما هو مذهب بعض الفقهاء فتركها، فالأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي أن نضيق على الناس في هذه الأمور، ومن فوائد -كما ذكرت قبل قليل- من فوائد الإطلاع على الأقوال المختلفة أن يصبح لدى المتفقهة قدراً من المرونة في التعامل مع الناس، وتقدير آرائهم ومواقفهم المخالفة له.