يا أهل الجزيرة: أنتم إنما جمعكم الله تعالى بالإيمان، وإلا فأنتم قبائل شتى، ومناطق مختلفة، ومفاهيم متفاوتة، ومذاهب غير متفقة أيضاً، ولكن الله ألف بينكم بالإيمان لا غير، كما قال الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63] فالمال وحده لا يكفي، وهاهي الشيوعية أممت رءوس الأموال، ومع ذلك وجدت الأحقاد، فالمال وحده لا يكفي، ولكن لا شك أن التميز الطبقي والتفاوت من أسباب تغاير القلوب، واختلاف النفوس وانتشار الأحقاد: {والظلم ظلمات يوم القيامة} كما أن الظلم ظلمات في الدنيا -أيضاً- على أصحابه.
إنما المال وحده لا يكفي فطالما سكت ناس؛ لأنهم كانوا يأخذون أموالاً، ويقبضون ثمناً معلوماً، فلما شح هذا الذي يأخذون، تكلموا بأعلى أصواتهم، وقالوا ما يعلمون وما لا يعلمون.
إذاً {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] فالله تعالى ألف بينكم يا أهل الجزيرة، كما ألف بين كل المؤمنين بالإيمان، وباتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذه العقيدة التي أخرجكم الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، وإلا فأي تاريخ للعرب قبل الإسلام؟ ليس لهم تاريخ يذكر! اللهم إلا إذا اجتهد أحدهم ودرس وقال: يوم ذي قار! أجل، وبعدها ماذا عندكم؟! انتصرتم نصراً مؤقتاً، لكن ما هو الهدف الذي كنتم تقاتلون من أجله؟! ما هي العقيدة التي كنتم تحاربون في سبيلها؟ أبداً! كان أفضل العرب أتباعاً لفارس والروم، المناذرة والغساسنة، فلما جاء الإسلام بدأ تاريخ العرب والمسلمين، كما قال القائل: تاريخنا من رسول الله مبدؤه وماسواه فلا عز ولا شان وقال آخر: إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدا ويبقى صدى بدر يرن بأفقنا هتافاً على سمع الزمان مرددا بلاد أعزتها سيوف محمد فما عذرها ألا تعز محمداً تاريخكم كله هو تاريخ الإسلام، تاريخ التوحيد، تاريخ الاتباع لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبغير هذا الدين يصبح الأعرابي هو ذلك الذي يتبع اليرابيع يبحث عنها في الصحراء! الشمس والحر والحرب والقتال والتشتت، وكما قال القطامي: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا إلى قوله: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا تاريخ العرب بدون إسلام لا شيء، نعم أنها أمة تملك الاستعداد، ولذلك اختارها الله عز وجل، لكن يجب أن نعلم أن الله تعالى إنما جمعنا بالإيمان، ووحدنا بالتقوى، وألف بيننا بهذه العقيدة الذي أخرجنا الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، فتمزيق الإيمان هو تمزيق لوحدة الجزيرة العربية، فهي مناطق، وقبائل، ومذاهب، وطبقات لا يوحدها إلا الإسلام والإيمان، وإلا السلطة التي تسهر على حماية الإسلام والإيمان، سواء في التعامل مع الناس، مع القريب، أو مع البعيد، مع المسلم، أو مع الكافر في مجال الاقتصاد أو السياسة أو التعليم أو الإعلام، أو غير ذلك.
إذاً فيجب أن ننبذ كل الفروق الطبقية، والأسرية، والمناطقية، والقبلية، وأن نعتصم بوحدة الإسلام فحسب، وألا نتعامل مع الناس، على أساس أن هذا من قبيلة كذا، أو من أسرة كذا، أو من المنطقة الفلانية، فليس عندنا نجد والحجاز، ولا عندنا قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ولا عندنا شمال وجنوب، وإنما عندنا أمة وحدها الله تعالى، فالأجدر بها هو الأكفأ، والقاعدة التي يجب أن تحكم في كل شيء: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] .
أما أن تشعر فئة، أو قبيلة، أو منطقة أو فرداً أو قريباً، أو بعيداً، بأن الوظيفة لغيره، أو أن المال لسواه، أو أن التسهيلات ليست من حقه، أو أن الفرص مما لا يخصه ولا يملكه، فإن هذا شر مستطير، وهو ظلم كبير، يشترك فيه كل من ساهم فيه صغيراً كان أو كبيرا، ممن يتعامل مع الناس على أساس عنصري أو طبقي أو قبلي أو مناطقي، بل يجب أن نتعامل مع الناس جميعاً على أساس الكفاءة.
ولقد جالست كثيرين جداً، فوجدت في القلوب أشياء وأشياء، بل ربما تجد ذلك الذي ظفر بشيء كثير من المال، أو الوظيفة، أو الرتبة، أو المنزلة، ربما تجده ساخطاً أيضاً، لأن الأمور نسبية، فهو ينظر ويجد من هو أفضل منه، ولذلك لا يرضى أحد، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] لكن بالعدل يرضى الجميع، والعدل أساس الملك، والظلم سبب خراب الدول والأمم والمجتمعات وبوارها.