صنف ثان من الأدلة التي تدل على بقاء الجهاد، واستمراره، ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} .
فقوله عليه الصلاة والسلام: {لا هجرة بعد الفتح} أي: أن الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة صارت غير واجبة، لأن مكة صارت دار إسلام بفتحها، فلم يعد واجباً على أهل مكة أن يغادروها إلى المدينة، بل يبقوا في مكة.
{ولكن جهاد ونية} وما بعد (لكن) مغاير لما قبلها في الحكم، فلما بين صلى الله عليه وسلم بأنه لا هجرة بعد الفتح، بين أن الأمر الباقي قبل الفتح وبعد الفتح: هو الجهاد في سبيل الله والنية.
فدل الحديث على أن الجهاد باق، باق من ناحية الشرع -كما أسلفت- وباق من ناحية الواقع، كما أن الهجرة نسخ وجوبها من حيث الشرع، ونسخ وقوعها من حيث التاريخ، فإننا نعلم أن المؤرخين إذا قالوا: إن فلاناً من المهاجرين، مثلاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة إلى غير ذلك، يقولون: هؤلاء من المهاجرين، هل معنى ذلك أنهم هاجروا قبل فتح مكة.
ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فإذا قيل: فلانٌ مهاجري، فالمقصود: أنه هاجر قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فليس هناك هجرة، ومن خرج من مكة إلى المدينة لا يسمى مهاجراً حينئذٍ.
إذاً قوله: {لا هجرة بعد الفتح} يعني: لا هجرة شرعية من مكة، ولا هجرة واقعية أيضاً، ولكن الجهاد باق شرعاً، وكذلك هو باق من حيث الواقع، لا يمكن أن تفقده الأمة في عصر من العصور.