وحين تنظر إلى جانب معين من جوانب التوازن، وهو مثلاً جانب العلم: لنفترض أنك بعد أن تأملت نفسك، وفكرت في الخصائص والمواهب التي منحكها الله عز وجل، وجدت أنك تميل إلى تعلم العلوم الشرعية وتحصيلها، وهذا الأمر لا شك أمر مهم جداً، ولا غنى للمسلمين عنه في حال من الأحوال، فحينئذٍ ستجد نفسك أمام عدد كبير من العلوم، أمام تعلم التفسير المتعلق بكتاب الله -وكتاب الله هو أشرف الكتب وأعظمها- والمسلم بحاجة إلى معرفته قبل معرفة غيره، وهذا يدعوك إلى العناية بالتفسير، فإذا التفت إلى جانب آخر وجدت أن السنة تفسر القرآن، وتبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، فأنت إذاً بحاجة إلى معرفة السنة حتى تفهم القرآن فهماً صحيحاً.
فإذا نظرت إلى جانب آخر: وجدت أن علم العقائد، علم أصول، وأن أي علم قبل هذا العلم لا يكفي، وأن الإنسان إذا فسدت عقيدته لم ينفعه بعد ذلك ما حصل من العلوم.
وهكذا كل علم يدلي بحجته تجد أنك تحكم له، وتقول: هذا العلم أولى من غيره، ولذلك تجد أن بعض الطلبة يتنقل بين هذه العلوم بطريقة مترددة غير مطردة ولا مستقرة، فهو اليوم متجه إلى تعلم التفسير، ثم تلقاه بعد شهر أو شهرين قد ترك الكتب التي بدأها والبرنامج الذي ألزم نفسه فيه بتعلم التفسير، واتجه إلى حفظ السنة، فتلقاه بعد سنة وقد قطع هذا العمل على نفسه، وقال: لا بد أن أتعلم العقيدة فهي أساس كل شيء، فلا يكاد أن يبدأ بتعلم العقيدة حتى ينتقل منها إلى الفقه، وهو يقول: إن الفقه علم عملي والناس محتاجون إليه في كل حركة وفي كل سكنة، ولا بد من تعلم هذا العلم لسد حاجة الناس.
بل أعجب من ذلك أنك تجد بعض الشباب يتجه إلى طلب علم من العلوم، فيلقاه بعض من حوله فيسأله سؤالاً يتعلق بعلم آخر، فيجد نفسه حائراً أمام السؤال الذي وجه إليه لا يستطيع الإجابة عليه، فهذا السؤال وهذه الحيرة أملت عليه الاتجاه إلى العلم الذي يتعلق بهذا السؤال؛ فإذا كان السؤال فقهياً مثلاً، اتجه إلى الفقه لأنه شعر من خلال عجزه عن الإجابة عن هذا السؤال؛ بضرورة تعلم الأحكام التفصيلية بأدلتها.
فإذا بدأ وُجه إليه سؤال آخر وثالث وهكذا، فيكون الإنسان متردداً لا يكاد يستقر على حال، بسبب ضعف انتباه الإنسان لنفسه، وضعف ضبطه للطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعلم بها، وبسبب عدم وجود المربي أو الموجه الذي ينتفع الإنسان بخبرته ومعرفته في هذا المجال.
ولذلك قال علماؤنا السابقون: إن الإنسان إذا وجد في نفسه ميلاً إلى علم من العلوم ينبغي له أن يركز على هذا العلم الذي شعر بأنه يميل إليه، ولو كان هذا العلم مفضولاً، فمثلاً: لو افترض أنك تجد في نفسك ميلاً إلى علم التاريخ، وأنك تبدع فيه أكثر من غيره، فإنك حينئذٍ ينبغي بعد أن تتعلم من علوم الشرع ما لا بد لك منه أن تركز على تعلم علم التاريخ، وأن تخدم الإسلام من خلال هذا العلم.
فتبين مثلاً: المرويات الباطلة التي دسها الرافضة وغيرهم من أعداء الإسلام في كتب التاريخ، وشوهوا بها سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل شوهوا بها التأريخ الإسلامي، وخاصة القرون المفضلة، وجعلوا من هذه المرويات المدسوسة مطية للمستشرقين وغيرهم من أعداء في الإسلام الذين طعنوا الإسلام، ورموه من خلال هذه الكتب التي جمعت الغث والسمين، ومن خلال هذه الروايات التي دسها الرافضة وغيرهم من الزنادقة.
فأنت مؤرخ تخدم الإسلام من خلال تمحيص التاريخ الإسلامي، وأنت تخدم الإسلام من خلال دراستك للتاريخ دراسة صحيحة، وبيانك للصور المشرقة التي رسمها المسلمون الأولون، حتى ينسج المسلمون على منوالها، فيعرفوا التصرف الصحيح فيمتثلوه، ويعرفوا التجربة التي تبين عدم صحتها فيجتنبوها.
ولذلك قال الشاعر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره وما يمكن أن يقال في التاريخ يمكن أن يقال في أي علم آخر.
ولذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه الذي سماه الأخلاق والسير في مداواة النفوس: من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره، فلا يشغلها بسواه، فيكون كغارس النارجيل في الأندلس، وكغارس الزيتون في الهند، وهذا كله لا ينجب.
فحين تغرس نوعاً من الشجر في بلد لا تصلح تربته، أو لا يصلح جوُّه لهذا النبات، أو لهذه الشجرة فإنه يموت، فتخسر الشجرة، وتخسر الجهد الذي بذلته والوقت والأرض.
وهكذا من وجه نفسه إلى علم لا يحسنه يتعب كثيراً، ولا يحصل فيه إلا القليل، بل إنني أقول: إن الأمر يتعدى ذلك.
فإن كثيراً ممن يسيئون إلى العلم الشرعي، ويخطئون من حيث أرادوا الصواب، ويسيئون من حيث أرادوا الإحسان: هم من أقحموا أنفسهم في هذه المجالات، وهم لا يملكون أداتها ولا آلتها، ولم يخلق لها، فجاءوا من الآراء والنظرات والأقوال بالشيء الغريب الذي لم يسبقوا إليه.
وتجد كثيراً من الشباب خاصة في بداية الطلب وفي غمرة الحماس قد يأتون بآراء وأقوال في منتهى الغرابة، وقد يصدر منهم أيضاً من التصرفات والمواقف الشيء الكثير، ولا حاجة لضرب الأمثلة لذلك، فهي معروفة لدى كثير منكم.
أيها الإخوة: إننا حين ندرك المواهب التي وهبنا الله عز وجل إياها، والأشياء التي نستطيع أن نفلح فيها أكثر من غيرها، فإننا بذلك نوفر على أنفسنا جهداً وعناءً كبيراً، ونقدم للدين الذي نحبه ونحب أن نضحي في سبيله شيئاً كثيراً، وفي نفس الوقت نكون قد تناوبنا القيام بفروض الكفايات التي أوجبها الله علينا.
فإن تعلم هذه العلوم فيما عدا العلم الذي يخص الشخص هو من باب فروض الكفايات، حتى علوم الصناعات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم العملية هي فرض كفاية.
وكذلك تعلم العلوم الزائدة التي يحتاجها الناس، فإذا قام كل واحد منا بالتعرف على العلم الذي يحسنه، ووجه همه إليه، أو التعرف على الشيء الذي يناسبه ولو لم يكن علماً، ووجه همه إليه، فإننا سنجد في النهاية أننا بمجموعنا أفلحنا في تكوين مجتمع إسلامي متكامل، يتناوب أفراده القيام بفروض الكفاية، ولا يوجد فرد في غير محله، فكل فرد في موقعه الطبيعي.