عدم التركيز على العدد والكم

كذلك من الأشياء التي عني الإسلام بها ودلت على العناية بالمخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت أنظار الناس إلى ألاً ينظروا إلى العمل من حيث عدده، أو مقداره فقط بل يلتفتوا إلى الأمور الأخرى: الزمان والمكان والنية والقصد والظروف.

على سبيل المثال: في الحديث الذي رواه النسائي عن أبي ذر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما -وهو حديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبق درهم مائة ألف درهم} أي: درهم واحد تصدق به الإنسان سبق مائة ألف درهم، فجعل الناس يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! تصدق بدرهم وآخر دفع مائة ألف، والذي دفع درهماً أفضل عند الله بهذا الدرهم! فالقضية ليست قضية أعداد فقط -صاحب هذا الدرهم ليس عنده إلا درهمان فقط- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- تصدق بأحدهما، والآخر لنفسه وعياله، فبذل كل ما يستطيع، والذي عنده مائة ألف درهم عنده أموال هائلة طائلة، فأخذ من عرضها مائة ألف درهم، ولم يعلم بها أي لم تؤثر فيه، ففرق بين هذا وذاك.

إذا كان هناك إنسان عنده ذكاء وقوة وبلاغة وجودة، وصار يتكلم ويتحدث ويدعو ويأمر وينهى ويعظ، فلا ينبغي له أن يقول: أنا أحسن من ذلك القاعد! فربما يكون القاعد أحسن منه؛ لأن القاعد كان يستطيع أن يفعل أكثر مما فعل العامل لأن الله أعطاه مواهب وإمكانيات، يجب أن تستغل هذه المواهب وهذه الإمكانيات بشكل صحيح، لكن ذلك الإنسان قد يكون عيياً، ليس عنده فصاحة، وبلاغة وقدرة، يمكن أن يكون مثل الإنسان الذي قام مرة يخطب في المسجد، فلما رأى كثرة الناس أرتج عليه، وقال: يا أيها الناس اتقوا الله! إن الله تعالى يعاقب العبد إذا عصى، هؤلاء قوم صالح قد عاقبهم الله بناقة لا تساوي درهمين، فخرج الناس يضحكون من المسجد، وسموه مقوم ناقة الله! من قال لك: إنها تساوي درهمين، أو أقل أو أكثر هل أنت أعلنت عنها بالمزاد؟! لأنه أرتج عليه، ولم يجد إلا هذا الكلام.

وقد ذكر الجاحظ من طرائف الذين فيهم عي في الكلام، شيئاً عظيماً غريباً، بعضه مما لا يناسب المقام.

المقصود إذا كان لديك قدرة لا توجد عند غيرك، فأنت مسئول أكثر من غيرك، مثلما أن التاجر يطالب بالإنفاق أكثر من غيره، كذلك الذكي يطالب باستخدام عقله للإسلام أكثر من غيره، والبليغ يطالب باستخدام بلاغته للإسلام أكثر من غيره، والقادر الذي أعطاه الله تعالى همة على العبادة وقيام الليل وصيام النهار والدعوة يطالب بذلك أكثر من غيره، والله تعالى يحاسبك بحسب ما أعطاك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .

فلم تكن دعوة المسلمين في يوم من الأيام -أيها الأحبة- مجرد دعوة إلى تغيير المظهر فقط، كما قنع كثير منا اليوم، حتى صاروا يعتقدون أنهم بمجرد إصلاح ظاهر الإنسان يكونون قد جاوزوا القنطرة؛ مما ترتب على ذلك وجود عدد كبير ممن ينسبون ويحسبون على الدعوة وعلى الإسلام والالتزام وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح في مظاهرهم، ولكن قلوبهم خاوية، وأمراضهم وعللهم القلبية باقية.

ولم تكن دعوة الإسلام والمسلمين -ولا يمكن أن تكون- دعوة لإصلاح الباطن فحسب؛ إذ أن الظاهر -كما ذكرت- هو تبع للباطن، وبصلاح الباطن يصلح الظاهر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015