أيها الإخوة: واقع الناس في كل زمان ومكان أنهم قد يهتمون ويكترثون بالمظاهر أكثر مما يهتمون بالحقائق والمخابر، فأنت حين تنظر إلى العامة، تجد أن عنايتهم بالمظهر أكثر من عنايتهم بالمخبر، سواء في ذلك تربيتهم لأبنائهم، فيُعْنَى الواحد منهم بإعداد ولده، يُعْنَى بثيابه، ومظهره، ويُعْنَى بصحته، وجماله، لكن هل يعنى بعقله، وخلقه، وبدينه، وفصاحته؟ هذا قليل! أما عنايتهم -مثلاً- بمناسباتهم: فقد يعنون بالمناسبات، فيظهرون هذه العناية على شكل حفلات، أو أكل يقدم، أو طعام، أو شراب، لكن العناية بهذه المناسبات في معرفة السبب في وجودها، كأن تكون عيداً من الأعياد الشرعية، وربط الناس بهذا المعنى هو قليل، بل أقل من القليل.
بل تجد عنايتهم حتى بأمور معاشهم، من طعامهم وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك، فقد يعنى الواحد منهم بمظهر معين، من لبس أو أكل أو شرب أو غير ذلك، لكن هل يعنى بكونه من حلال أو من حرام؟ قد يعنى بالمظهر الدنيوي من كون هذا الطعام حلواً أو لذيذاً، لكن هل يعنى بكونه نافعاً للبدن؟ هذا قليل! فضلاً عن أن يعنى بكون هذا الطعام مباحاً شرعاً، وليس فيه حرام، أو لم يأت من حرام ولا غير ذلك.
بل حينما تنظر إلى عباداتهم، تجد أن هذه العبادات أصابها ما أصاب الأمور الدنيوية، فأصبح الناس يهتمون في العبادة بالمظهر أكثر مما يهتمون بالمخبر، فقد يُقبِلَ الواحد منهم على صلاته، ويحافظ عليها، وهذا محمود بكل حال، ولكن هل يخشع في صلاته ويُقبل على ربه؟ وهل يبكي وتدمع عينه؟ هذا قليل!! قد يسمعون القارئ يقرأ القرآن، فتجد أن أكثر الناس يخرجون ويقولون: قد أجاد! بارك الله فيه! ما أحسن صوته! ما أحسن قراءته! ما أضبطه! لكن أن تكون هذه القراءة وصلت إلى قلوبهم، أو تبللت عيونهم على الأقل ببعض الدموع، هذا قليل! وهكذا تجد حالهم في صيامهم، وحجهم، وعمرتهم، وفي سائر أعمالهم.
قد يذهب الإنسان للحج أو العمرة، فتجد أنه كلما جاء رمضان، ذهب يعتمر، هو وأولاده، وكلما جاء موسم ذهب يحج، لكن أصبحت الجلسات هناك جلسات أنس وحديث وزائر ومزور وضحك وسواليف وما أشبه ذلك، أكثر مما هي أسفار بقصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى.
فسيطر الظاهر على دنيا الناس، بل حتى على كثير من أمورهم الدينية.
أما إذا انتقلت إلى الخاصة، فإنك تجد الأمر نفسه موجوداً من طلبة العلم والدعاة والعلماء وغيرهم.
فتجد -مثلاً فيما يتعلق بطلب العلم- الإنسان قد يهتم بالكم: كثرة ما يقرأ، وكثرة ما يحفظ وما يحصل، وكثرة جلوسه إلى مجالس العلماء، وما أشبه ذلك، لكن أن ينظر في أثر هذا في قلبه، والتأثير في نفسه، ومدى عمله بما علم، وهل هذا من العلم النافع أو غير النافع؟ هذا قد لا يلتفت إليه كثيراً.
ومثله إذا انتقلت إلى موضوع العبادة، قد تجد الناس يكثرون من الكلام في العبادات، وقد يتنافس بعضهم مع بعضهم في كثرة العبادة، لماذا؟ لأنهم يسمعون الكلام عن أن فلاناً كان يصلي في الليلة ألف ركعة، وفلاناً كان يختم القرآن في ليلة، وفلاناً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وفلاناً كان كذا وكذا وهذه كلها أشياء بعضها وارد، وصحيح، وبعضها قد يكون فيه مبالغة، لكن هل يهتمون بالكيف مثلما يهتمون بالكم؟ فيقبل الإنسان منهم على صلاته، وصيامه، وقراءته، وعبادته، بحيث يكون هذا من العلم، من الذكر النافع المقرب إلى الله تعالى، وتكون صلاته وصومه، وحجه، وعبادته زلفى إلى ربه!! هذا فيه نظر.
كذلك إذا انتقلت إلى مجال الدعوة إلى الله تعالى، تجد الذين ينطلقون إلى الدعوة كثيرين، لكن ربما صبوا جل اهتمامهم على تكثير سواد الناس كما يقال، فكثر المقبلون على الدعوة، وكثر الأخيار، والملتزمون، لكن كم مِن هؤلاء مَن يكون في قلبه إشراق ونور؟ وكم من هؤلاء من دخلت حقيقة الإيمان ولامست قلبه أو تغيَّر باطنه؟ قليل! أما الأكثرون فقد تغيَّر ظاهرهم فقط، أصبح مظهرهم ملتزماً -كما يقال- أصبح مقصراً لثوبه، وفيه خير في مظهره، لكن القلب لم يتغير، هل عالجنا القلوب؟ هذا السؤال يطرح نفسه.
وفي كثير من الأحيان، نعتقد نحن الدعاة أن مهمتنا مع الناس تنتهي بمجرد أن يلتزموا ظاهرياً، فإذا رأينا فلاناً الذي كان بالأمس مدمناً للمخدرات، أو تاركاً للصلوات، أو واقعاً في الجرائم والموبقات، أو عاقاً لوالديه، أو مرتكباً للآثام، فيخرج من سجن ليدخل في سجن آخر، أو كل يوم يمسك في قضية، فمجرد أن نجد هذا الإنسان أظهر الاستقامة، وأعفى لحيته، وأزال ما كان في ثوبه من الطول المخالف للسنة، اعتقدنا أن مهمتنا انتهت عند هذا الحد، وأصبحنا نتحدث عنه في المجالس، ونطريه، فنثني عليه ونعتبره نموذجاً، ونتكلم عنه، وننسى أنا لم نعالج بعدُ أخطر منطقة في نفسه، ألا وهي القلب.
وقد يكون عند هذا الإنسان أمراض وعيوب ما عولجت، فقد يكون في الماضي عنده كذب، أو غرور، أو مصائب، وعلل، وأمراض في قلبه ما عالجناها، بل ربما ما عرفناها أصلاً، لماذا؟ لأن قضيتنا مظهرية انتهت عند حدود الالتزام الظاهري، فبمجرد أن التزم هذا الإنسان ظاهرياً، اعتقدنا أنه جاوز القنطرة وانتهى دورنا عند هذا الحد، وهذا خطأ كبير؛ لأنه سوف يجعل الإنسان عرضة للنكسات مرة بعد أخرى، وبقدر ما فرحنا به اليوم قد نحزن له بالغد، وكم من إنسان فرحنا به وطبَّلنا حوله ودندنا له؛ لأنه فلان الذي كان وكان، كان رياضياً أو فناناً أو كان مشهوراً أو أياً كان اهتدي وأصبحنا نقدمه للناس على أنه رمز لانتصار الإسلام، وعلى أنه رمز للهداية، والتقوى، وبعد حين نفاجأ بهذا الإنسان أنه قد انتكس وتراجع، وبقدر ما فرحنا لهدايته وتوبته، حزنّا لرجوعه وانتكاسه، وبقدر ما بيَّض وجوهنا بالأمس، سوّد وجهنا اليوم والعيب منا نحن الدعاة، والمصلحين؛ لأننا اعتبرنا أن مجرد هداية الإنسان في ظاهره، ونسينا أن نعالج أخطر شيء في نفسه وهو القلب، وظننا أن أمراض البدن هي أمراض الظاهر فقط، فلذلك انتكس هذا الإنسان.
أمر آخر: أن هذا الإنسان قد لا ينتكس ظاهراً؛ لأنه قد أصبح من الأخيار، فهو محسوب عليهم، ويذكر من ضمنهم، ويحس في نفسه أنه قد وقع في عداد الأخيار، ومن الصعب جداً أن يستل نفسه منهم، أو يخرج من بينهم لكن هنا تقع مصيبة أعظم وأهول وأطول وهي: أن مصائب هذا الإنسان بدأت تظهر، فقد يكون كذاباً كل يوم له قصة طويلة عريضة، ليس لها زمام ولا خطام، يخلق ما يقول: من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة لي حيلة فيمن ينمُّ وليس في الكذاب حيلة ولأن مظهره كمظهر الأخيار أصبح الناس يحسبونه على الأخيار، وهذا الإنسان يفتري ويكذب، ويكذب، ويكذب، وعندما يكتشف كذبه يقال: هؤلاء الطيبون، يكذبون.
وقد يكون لصاً، فيسرق فيكتشف أنه لص والعياذ بالله، فيقال: هذا من الطيبين، فينسب إلى الأخيار؛ لأن مظهره منهم، ولأننا أفلحنا في تغيير شكله الظاهر، ولم نعالج -لا أقول: لم نفلح- ولم نجاهد في تغيير قلبه وباطنه وحقيقته، فبقي بمظهره محسوباً علينا، وبحقيقته بعيداً منا، لكن تصرفاته بكل حال محسوبة على الأخيار، فإذا كذب، وسرق، وغش، وافترى، أو ظهر بأي مظهر غير لائق، قال الأعداء: هؤلاء الخيرون، وهؤلاء الطيبون يظهرون لنا شيئاً، ويبطنون لنا خلافه.
والحقيقة أن هذا الإنسان لو كانت مقاييسنا حقيقية، ما كان محسوباً على الأخيار، ولا كان منهم، لأن الخير ليس مظهراً فقط، بل هو مظهر ومخبر، وهذا الإنسان أخذ أسهل الأشياء، وترك أعمقه.
خذ -مثلاً- اللحية: اللحية من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، إعفاؤها واجب وحلقها حرام، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، فهي سنة، أي: أنها مأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها واجبة الإعفاء وحلقها لا يجوز، بل يأثم الإنسان على حلقها أجمع على هذا أهل العلم.
والإنسان الذي تعود على حلق لحيته، بكل تأكيد سيجد صعوبة أنه يعفيها أول مرة، لأن الناس الأقارب والأباعد، والزملاء في العمل، وزملاء المهنة، وأهل الحي، وأبناء العم، والجيران، كلهم تعودوا أن فلاناً حليق، فلو رأوه لأول مرة، وقد أعفى لحيته تعجبوا وصار الكثير منهم -وخاصة الأشرار- يعلقون عليه.
مثلاً يقولون: ما شاء الله يا فلان تدينت! ما شاء الله يا فلان تغيرت الأمور!! وبعضهم يقولون: كلمات معينة غير لائقة، يقصدون لدغ هذا الإنسان، وبعضهم يقول: بدري عليك! فهذا الإنسان قد يسمع مثل هذه التعليقات لأول مرة، لكن يوم ثلاثة أسبوع بعد ذلك أصبحت شخصيته معروفة أنه ملتحي، فسكتت هذه التعليقات، ولا أحد يعيبه بها، أو يعلق عليه، بل العكس لو أنه حلق لحيته، لوجد من يعيره بذلك، ولوجد الأخيار -أولاً- يعيبونه ويعاتبونه.
ومثلاً يقولون: يا فلان نعوذ بالله من الحور بعد الكور! أمس تلتزم بالسنة وتعمل بها، واليوم تحلقها! نسأل الله العفو والعافية! الناس يزيدون وأنت تنقص! اتق الله! فوجد من الأخيار والطيبين والدعاة وطلبة العلم الإنكار والدعوة والتغيير، ومنهم من يعيب عليه ويعتب حتى ولو لم يكن خيّراً، فيقول: يا فلان مالك متناقض ما عرفنا لك طريقة، كل يوم لك حال، وكل يوم لك شخصية، ووضع، فصار يعاب بحلق اللحية.