حقيقة الإنسان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اقترح علي بعض الإخوة أن تكون هذه المحاضرة حلقة ضمن دروس السلسلة العلمية العامة، ورأيت هذا الاقتراح وجيهاً، وذلك نظراً لأهمية موضوعها وحاجة الكثير من الناس إليه هنا وهناك، ولذلك فإن رقم هذا الدرس هو الحادي والخمسون، وهذه ليلة الخميس الثالث عشر من جمادى الآخرة لسنة (1412هـ) وينعقد هذا الدرس استثناءً في هذا المكان في جامع حي سلطانة، وعنوان هذا الدرس: صلاح الظاهر وصلاح الباطن.

الإنسان مظهر ومخبر، وصورة وحقيقة، وهذا أمر معروف تفَّطن له الناس قديماً وحديثاً، ولذلك قال الأول -الشاعر الجاهلي- وهو زهير بن أبي سلمى: وكائن ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم أي أن الإنسان وهو ساكت قد يعجبك، لكنه إذا تكلم زاد أو نقص بحسب جودة كلامه وقوته وسيلانه أو عكس ذلك، فإذا كان لسان الفتى نصفاً، وكان عقله وقلبه وفؤاده نصفاً آخر، لم يبق منه إلا صورة اللحم والدم، وهو بذلك يلفت النظر إلى أهمية تثقيف الإنسان، وبتقوية عقله، وتعزيز ذهنه، وتحريك قريحته، وكذلك تدريبه على جودة المنطق وصفاء الكلام، قبل أن يكون الاهتمام بمظهره وشكله الذي هو صورة من اللحم والدم، يستوي فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، وهكذا لم يكن المقياس عند الناس -حتى في الجاهلية الأولى- في الإنسان مقياساً ظاهرياً محضاً في شكله وهيئته ومظهره، بل كانوا يقيسون الإنسان بباطنه وحقيقته، قبل أن يقيسوه بمظهره، ولعلنا جميعاً نحفظ تلك القصيدة الطويلة الجميلة، التي قالها العباس بن مرداس السلمي وهو يخاطب بعض بني قومه معاتباً: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير كم من إنسان يعجبك بمظهره، لكنك إذا ابتليته وقسته ومسسته، لم تجده أهلاًَ لهذا الإعجاب.

ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور أي: أن هذه البغاث من الطيور الصغيرة كثيرة الفراخ، لكن الصقور قليلة نزرة، تلد بين الفينة والأخرى، وشيئاً يسيراً واحداً، ومع ذلك فإنه ثمين نفيس عظيم، لا يقاس ببغاث الطير؛ ولهذا قيل: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" أي يتشبه بالنسور وهو لا يقاس ولا يقرن بها.

صغار الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير وتضربه الوليدة بالهراوي فلا غير لديه ولا نكير يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير أي: أنه يجر بالحبل، وهو ضخم كبير فلا يُغيَّر ولا يتحرك، ثم قال: فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015