إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] .
أما بعد: فلما هممت بإلقاء هذه الكلمة وإعدادها تحيرت في الموضوع الذي يناسبها، لأنها لا تتكرر إلا بين الحين والحين، والموضوعات التي تحتاج إلى إيضاح وبيان كثيرة، ثم رأيت أن أجعل مدار هذه الكلمة على موضوع واحد تتفرع عنه جميع الموضوعات الأخرى؛ ألا وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} والحديث متفق عليه.
أيتها الأخوات: إن هذه المضغة، القطعة من اللحم المسماة بالقلب عليها مدار كل شيء، فهي بالنسبة للجسد ملكه، وما الأعضاء والجوارح من السمع، والبصر، والأيدي، والأرجل، واللسان، وغيرها؛ إلا جنود تحت خدمة هذا السيد المطاع الذي هو القلب، فإذا كان القلب صالحاً فإنه يأمر جنوده بكل أمر صالح، فلا ينظر الإنسان إلا إلى حلال، ولا يسمع إلا الخير، ولا يمشي إلا إلى خير، ولا يأخذ إلا خيراً، وإذا كان هذا السيد المطاع الذي هو القلب فاسداً فإنه يأمر جنوده التي هي الأعضاء بالشر والفساد، فلا يرتاح الإنسان إلا إلى النظر للحرام، وسماع المحرم، والمشي إلى الحرام، وأخذ الحرام، وإعطاء الحرام، فالقلب يملي على جوارح الإنسان جميع الأعمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المضغة: {إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} .
أيتها الأخوات: أحياناً يكون مظهر الإنسان مظهراً غير إسلامي -مثلاً- تكون المرأة قد لبست ثياباً ضيقة، أو غير ساترة، أو ثياباً فيها تشبه بلباس الكافرات، أو ثياباً محرم لبسها، أو استعطرت في حضرة رجال أجانب، أو تسمع الغناء المحرم، أو تغتاب الناس وتنتهك أعراضهم، فإذا وجدت من يلومها ويعاتبها ويقول اتركي هذه الأشياء، قالت: التقوى هاهنا -وتشير إلى صدرها- وتنسى أن التقوى لو كانت فعلاً هاهنا لظهرت آثارها على الجوارح، لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله.
إذاً: فإننا حين نرى مظهر الإنسان مظهراً سيئاً منحرفاً نستنتج من ذلك أن القلب إما ميت، أو مريض، والعكس بالعكس إذا كان مظهر الإنسان مظهراً حسناً فإننا نستنتج من ذلك أن القلب فيه حياة وفيه نور.
القلب لا بد له من تعلق لأن الله تبارك وتعالى حين خلق القلب جعله مستودعاً للمشاعر من الحب، والبغض، والرحمة، والحسد، والحقد، وغيرها من المشاعر الطيبة أو المشاعر الخبيثة.
فلا بد أن يكون هذا القلب مملوءاً بشيء، إما بخير، أو بشر، لا بد أن يتعلق القلب بشيء ولننظر الآن في أنواع الأشياء التي يمكن أن يتعلق بها القلب ونطبقها على واقع حياتنا التي نعيشها في هذا العصر.
قد يتعلق قلب الإنسان رجلاً كان أو امرأة بالدنيا وزخارفها، ويمتلئ بمحبة هذه الدار والحرص على الاستمتاع الكامل بها، وهذه ليست من صفات المؤمنين، يقول الله عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:15-16] ويقول جل وعلا: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الذين يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فاستحباب الحياة الدنيا، وإيثارها على الآخرة ليست من صفات المؤمنين، ويقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] .
وفيما يتعلق بالمرأة خاصة فقد حدث أن كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه يطالبنه بالنفقة على رغم قلة ذات اليد وشظف العيش في ذلك العصر، حتى ضاق من ذلك صدر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قول الله تعالى مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] فالمرأة التي غاية تعلقها هي الحياة الدنيا وزينتها لا تصلح أن تكون زوجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عقب على ذلك بقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] وهكذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً ممن أرادن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الدنيا وما فيها.