القضاء على الدين مستحيل

وهاهنا أسئلة يجب أن نجيب عليها: أولاً: هل يمكن القضاء على الغلو أو حتى على الجماعات الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية, الغلاة فيها والمعتدلين وغيرهم, هل يمكن القضاء عليهم بالسجن وبالرصاص والمقاصل والمجازر؟

صلى الله عليه وسلم كلا, فهذا في النهاية اعتقاد وفكر, وعلى قاعدة الإعلام نفسه فالفكر إنما يحارب بالفكر, لا يحارب بالرصاصة وإنما يحارب بالحجة, والحجة تقاد بالحجة.

هذا أولاً.

ثانياً: إننا سبق أن قلنا: إن الغلو هو نتاج الضغط والإرهاب والتعسف, إذاً فالضغط والإرهاب والتعسف لا يزيده إلا مضاءً وقوة وإصراراً، وهذا التعسف هو المسوغ الذي يحرق حجج المعتدلين, فالمعتدل يوماً بعد يوم يفقد مواقعه, لأنه يجد من شراسة الخصومة من قبل المتنفذين والقسوة وإغلاق المنافذ في وجه الدعوة, ما يكون مسوغاً وحجةً في رصيد أولئك الغلاة.

فلماذا تصر كثير من الحكومات على مواجهة ما تسميه بالتطرف، بل على مواجهة الإسلام والدعوة الإسلامية الصحيحة النظيفة بالإرهاب والمداهمة والسجون والمعتقلات؟ لماذا كان جزاء صاحب كتاب معالم في الطريق وفي ظلال القرآن هو السجن ثم الإعدام؟! هل أن كتاب معالم في الطريق يعلم القارئ كيفية صناعة القنبلة اليدوية؟ كلا, هل هو يعلم الإنسان كيف ينظم مسيرة في الشارع؟ كلا, هل هو يدرب الناس على حرب الشوارع؟ كلا, بل هو يرسم منهجاً للدعوة وما فيه إلا الحجة, فلماذا يكون جزاء هذا الكتاب الإعدام؟ وأين الذين يدافعون عن فرج فودة , صاحب كتاب الحقيقة الغائبة؟ لماذا لم يدافعوا عن سيد قطب -رحمه الله- حينما أعدم؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] .

أين حقوق الإنسان؟ من ثلاثين ألف سجين في الجزائر, وثلاثين ألف سجين في تونس, ومثله في مصر, يعيشون أوضاع مأساوية, حتى بلغ الحال أن بعضهم في مصر يحقنون بجرثومة الإيدز, بعض المعتقلين والعياذ بالله إن المسلم في نظر هؤلاء ليس إنساناً؟ أقول لكم أيها الإخوة: إنه طريق فاشل, وهاهي الأنظمة على مدى خمسين عاماً أو أكثر تحارب الدعوة الإسلامية بالقوة والتعسف, فهل كانت الدعوة فيما تعرفون أنتم وتحسبون أقوى وأشد وأنضج منها اليوم؟ كلا, إن الذي يقرأ عن المعتقلات التي عملها جمال عبد الناصر في مصر, وزج فيها بعشرات الآلاف في السجون الحربية وغيرها, وفي أوضاع سيئة للغاية, ثم علق على المشانق أعداداً كبيرة منهم, الذي يقرأ تلك الأخبار خاصة في ذلك الوقت يخيل إليه أنه لن تقوم للإسلام في مصر قائمة, وهاهي مصر بذاتها اليوم تستعيد عافيتها بإذن الله, ويملأ شبابها المتدين وفتياتها المتدينات يملئون جامعاتها ومدارسها ومعاهدها ومساجدها وأحيائها ومؤسساتها, بل وسجونها, وهاهي أجهزة الأمن لا تجد نفسها في وضع أسوأ مما تجده عليه الآن, ليس في صعيد مصر فحسب, ولا في القاهرة بل في كل مكان, إن ضحايا أسلوب التصعيد والمواجهة القاسية الضارية, هم رجال السلطة أكثر مما هم دعاة الإسلام, أو حتى الغلاة من دعاة الإسلام.

ولقد استطاعت اليد الخفية أن تغتال السادات , وتغتال بو ضياف، وتغتال أعداداً غفيرة من الضباط وكبار المسئولين، ولا يدري إلا الله ماذا تكون عليه الأوضاع غداً وبعد غد, فهل يقبل ناصح لهذه الأمة أن تستمر هذه الطريقة للمواجهة مع رجال الإسلام ودعاته؟ بل حتى مع الغلاة من الدعاة؟ إننا نعلم أن في إسرائيل أحزاباً أصولية متطرفة متشددة, فماذا فعلت إسرائيل تجاه هذه الأحزاب؟ هاأنتم تسمعون أنها الآن تشارك في الحكم في ائتلافها مع حزب العمل الجديد الذي فاز في الانتخابات, وتصل إلى الحكومة, فلماذا لا يقتدون بهم في هذا؟ كنا نقرأ -ونحن صغار- أن القتل والتضييق والسجن والمداهمة لا يقضي على الدعوة بل يقويها ويرسخ جذورها, ويؤلب حولها الأنصار ويكثر حولها الأتباع.

وأصدقكم القول -أيها الإخوة- كنت آنذاك وأنا صغير أشعر في دخيلة نفسي -أحياناً- أن هذا الكلام ترضية للنفس, أو خداع للذات، أو التسلية الوهمية, أما الآن فنحن نرى ما نرى في المغرب ومصر والشام بل والعراق وقد جاءت أخبار تدل على أن الصحوة حتى في العراق على قدم وساق، وإن لم تكن ظاهرة للعيان بسبب التعسف والكبت, ولكنها قوية جداً {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122] وبمجرد أن تنقشع هذه السحابة، وتعطى الدعوة الإسلامية نفساً ولو يسيراً حيث تتنفس الصعداء وتظهر على السطح ويبين للناس كم كان عمقها ورسوخها وامتدادها ومقاومتها لرياح الحرب والقتل والتغيير والتدمير والمداهمة.

أما الآن ونحن نرى ما نرى، فقد آمنَّا فعلاً أن هذا الكلام حق, وأن العقائد لا يمكن أن تحارب بالقتل, ولا بالسجن ولا بالمصادرة ولا بكبت الحريات ولا بتكميم الأفواه, وقد رأينا الشباب وهم في السجون يرددون آيات القرآن الكريم, ويهتفون وينادون ويتمنون الشهادة في سبيل الله عز وجل, ويرددون أبياتاً من الشعر الحماسي المؤثر الذي يشتاقون فيه للموت في سبيل الله, أي حيلة في إنسان أغلى شيء هو أن يموت في سبيل الله, فأنت حين تقتله تهدي إليه هدية كبيرة.

فلماذا تظل هذه الأجهزة الأمنية والسياسية في العالم العربي والإسلامي مصرة على هذا الخطأ الكبير في مواجهتها مع الإسلام كله المعتدلين من الدعاة وغير المعتدلين, ومع ذلك فإن هذا الأمر، وهو أمر بقاء الحق ورسوخه واستقراره أمر ثابت في القرآن الكريم وهو ديدن المؤمنين كلما ازدادت المحن، أو ادلهمت الخطوب، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] وأصحاب الأخدود حُرِّقوا في النار، ومع ذلك صبروا وهم يرون إخوانهم يشوون وتحرق أجسادهم بالنار فصبروا في سبيل الله عز وجل، حتى أنزل الله تعالى فيهم هذه السورة العظيمة؛ ليكونوا عبرة للمؤمنين عبر العصور.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015