ألب أرسلان

ومن العجيب أيضاً والطريف: أن ألب أرسلان، واسمه محمد بن داود، وقد قتل سنة خمس وستين وثلاثمائة من الهجرة، أنه فعل كما فعل طارق، على ما ذكره الطرطوشي والقرطبي، أنه خرج ملك الروم من القسطنطينية في نحو ستمائة ألف من المتطوعين الروم وغيرهم، فكانوا لا يدركهم الطرف، ولا يحصيهم العد، بل كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، وكراديس يتلو بعضها بعضاً، كالجبال الشوامخ، لا يراهم أحدٌ إلا أصيب بالرعب والفزع، وقد قسموا البلاد بينهم، هذا له هذه الدولة وذلك له ذلك القطر وهكذا، فأخلّوا بالبلاد، ودخلوها من كل وادِ.

وكان الملك ألب أرسلان التركي، كان سلطان العراق والعجم يومئذٍ، وقد جمع وجوه مملكته، وقال لهم: قد علمتم ما نزل بالمسلمين، فما رأيكم؟ قالوا: رأينا لرأيك تبعٌ، وهذه الجموع لا قبل لأحد بها، قال: فأين المفر؟ لم يبقَ إلا الموت، فموتوا كراماً، قالوا: أما إذا سمحت نفسك بذلك، فنفوسنا لك الفداء، وقال لهم: نلقاهم في أول البلاد، فخرج في عشرين ألفاً من الشجعان المنتخبين المختارين، الذين يمكن أن نعبر عنهم أنهم يشبهون ما يسمى: بقوات الكومندوز الآن، فلما سار مرحلة، عرض العسكر فوجدهم خمسة عشر ألفاً، ورجع خمسة آلاف، ثم سار مرحلة ثانية، فلما عرض العسكر، إذا هم اثنا عشر ألفاً، قد تسرب منهم ثلاثة آلاف -كما في قصة طالوت وجالوت.

فلما واجههم عند الصباح، رأى ما أذهل العقول وحير الألباب، وكان المسلمون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وقال: إني هممت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال، قالوا: ولمَ؟ قال: لأن هذه الساعة لا يبقى على وجه الأرض مسلم إلا دعا لنا بالنصر، وكان ذلك يوم الجمعة، قالوا: افعل رحمك الله، فلما زالت الشمس صلى، وقال: ليودع كل واحدٍ منكم صاحبه، وليكتب وصيته، ففعلوا ذلك، فقال: إني عازم على أن أحمل، فاحملوا معي، وافعلوا كما أفعل فاصطف المشركون عشرين صفاً، كل صفٍ لا يرى طرفه، ثم قال ألب أرسلان: بسم الله، وعلى بركة الله، احملوا معي، ولا يضرب أحدٌ منكم بسيفه حتى أفعل، فحمل وحملوا معه مرةً واحدة، فخرقوا صفوف المشركين، وكسروا صفوفهم، وأحاطوا بملكهم، وانتهوا إلى سرادقه، وهو لا يدري ولا يظن أن أحداً يصل إليه، فما شعر حتى قبضوا عليه.

لقد حددوا الهدف، وتحملوا في سبيل ذلك التضحية، فأمسكوا بالملك وقبضوا عليه، ثم قتلوا رجلاً منهم، وعلقوا رأسه على الرمح، وصاحوا قتل الملك، فلما رأى الروم ذلك، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وحكم المسلمون فيهم السيف أياماً، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم إلا شريدٌ أو طريدٌ أو أسير، وجلس ألب أرسلان على كرسي الملك، في مضربه وفي سرادقه وعلى فراشه، وأكل من طعامه ولبس من ثيابه، ثم أحضر له الملك بين يديه، وفي عنقه حبل يجر به، قال: ما كنت صانعاً لو ظفرت بي؟ قال: أو تشك أني كنتُ قاتلك حينئذٍ؟ قال له ألب أرسلان: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه، لأنه كان أسيراً، فطافوا به على جميع العسكر، والحبل في عنقه، وينادى عليه: من يشتري؟ فلا أحد يسومه، ولا ينادى عليه بالدرهم ولا بالفلس، ولا يشتريه أحد، حتى انتهوا إلى آخر العسكر، فإذا رجلٌ معه كلب، فقال: إن بعتموني بهذا الكلب اشتريته فأخذوه وأخذوا الكلب، وأتوا بها إلى ألب أرسلان، وأخبروه بما صنع، فقال: الكلب خيرٌ منه، لأنه ينفع وهذا لا ينفع، خذوا الكلب وادفعوا له هذا الكلب، ثم بعد ذلك أمر بإطلاقه، وأن يجعل الكلب قرينه.

قد يقول البعض لم هذا؟ فأقول: ما رأيك لو ظفر المسلمون بـ رادوفان كرادينش، أو أمثاله ممن فعلوا الأفاعيل بالمسلمين، هل يصلح لهم إلا مثل هذه المعاملة، وأن يهانوا ويذلوا ويذاقوا ألوان الهوان، على أذيتهم للمسلمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015