التواضع لا يمنع من العمل والأداء: فهذا التواضع لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، ويدير الجيوش، ويعلم الناس العلم ويصالح ويحارب ويسالم ويدعو ويخطب ويأمر وينهى، ويقوم بكل الواجبات الشرعية، فأنت تجد مثلاً ابن عباس رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان متواضعاً شديد التواضع، كثير البكاء من خشية الله تعالى، حتى قيل: إنه رضي الله عنه عميت عيناه من كثرة البكاء.
وكان يقول: إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ ومع ذلك كان يقول عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وكذلك عند قوله تعالى في قصة أهل الكهف: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] يقول رضي الله عنه: [[أنا من القليل الذين يعلمونهم]] كما نقل عنه غير واحد من المفسرين.
فهذا التواضع لم يمنعه من أن يعلم الناس ويبين ما يعرف، بل هذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو المتواضع العارف بحق الله تعالى ومع ما ذكر الله تعالى عنه وشكره لنعم الله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] .
مع ذلك كان يقول كما ذكر الله تعالى عنه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] .
فأعْرَب وأعلن أنه يستطيعُ أن يقوم بأمر الوزارة في حكومة العزيز، وما ذلك رغبةً منه في المنصب ولا طمعاً في الدنيا، لكن من أجل أن يخدم دينه وعقيدته ورسالته التي بعث بها.
وهكذا عثمان بن أبي العاص قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم} .
ومثله ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول كلاماً عن نفسه قوياً جزلاً عظيماً، كان يقول: من قام بأمر الإسلام غيري؟! ومن الذي رفع رايته؟ وإنما قال ذلك لما هضم بعض الناس حقه، واتهموه بما هو منه براء، ومن قبل ذكر الله تعالى عن المتقين أنهم كانوا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] .
إذاً نريد منك أولاً ألا يكون تواضعك وهضمك لنفسك، ومعرفتك بقدر نفسك، حائلاً دون قيامك بالواجبات، وأن تقول عند المُلمات: أنا لها أنا لها.
وكما قيل: وتزعم أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ.