التجديد في العلوم الإسلامية

ويدخل في هذا التجديد أيضاً: التجديد في العلوم الإسلامية.

خذ على سبيل المثال: التجديد في علم التفسير، فما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام: أولاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي البلاغ.

هذا هو معنى قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .

ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] والتزكية هي: تربيتهم.

إذاًَ لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا، بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن]] وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله]] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .

ثم المرحلة الثالثة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] .

إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب: الدر المنثور للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من جامع الأصول لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم.

إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم، ومع الأسف قرأتُ قبل أشهر كتاباً اسمه: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بالمملكة، والكتاب قيِّم وأشيد به وأنصح بقراءته للمهتم بهذا الموضوع، لكن مما أحزنني: أن الكاتب ذكر في إحدى الهوامش أن بعض زعماء القرآنيين قد تزوج بالأمريكية المسلمة مريم جميل، وهي امرأة لها تاريخ مشرق، ومن خلال مراسلاتها مع أبي الأعلى المودودي يبدو أن المرأة كانت تحمل هَمَّ الإسلام، وكانت تلتزم بالفهم الصحيح للدين، حتى في بداية التزامها بالإسلام، فإن كان هذا الخبر مؤكداً فهو يستحق الحزن فعلاً، ولعله أن يكون في الأمر ما فيه.

والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم.

فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام.

ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ: أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة، لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً: ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس.

فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون، وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني.

إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة.

وهناك أمر آخر: وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، ولعلكم تذكرون أن الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة: أن هذا المتن فيه علة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، حتى أنني سمعت في شريط ما يناقش طالباً جزائرياً في رسالة ماجستير في حديث أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فقال: أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن، وكل حديث يعارض القرآن -يقول بلهجته-: حُطُّهُ تحتَ رجليك!! فهكذا يقول وهي كلمة بلا شك ثقيلة وصعبة، لكن حدثت منه وهي خطأ كبير لا شك.

والمقصود أن الشيخ كان يتكئ على قضية أن الحديث في متنه علة.

ومن الطرائف: أنه بعد فترة من الزوبعة التي أثارتها هذه ا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015