ومن الأحكام المتعلقة بالكنية أيضاً: أنه يجوز تكنية المشرك، كما قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] .
وكما في صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء إلى المدينة، ركب على حماره في ملأ من أصحابه وذهب في شوارع المدينة، فمر بملأ من الأنصار فيهم المؤمنون، كـ عبد الله بن رواحة، وفيهم المشركون والمنافقون، وفيهم اليهود، فلما غشيتهم عجاجة الدابة؛ نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فقام عبد الله بن أبي بن سلول، وقال: يا هذا، ما أحسن ما تقول إن كان حقاً- قبح الله عبد الله بن أبي، يقول: ما أحسن ما تقول إن كان حقاً، وهذا تحصيل حاصل: إن كان حقاً فهو حسن، لكن هو خبيث لا يريد أن يقول إنه حق، أو حسن، لكن يقول: إن كان صحيحاً فهو صحيح- فلا تغشانا في مجالسنا، من أرادك أتاك وأنت في مكانك.
فقال عبد الله بن رواحة: بل اغشنا يا رسول الله، فتنازع القوم واختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وهدأهم وسكن ثائرتهم، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فقال له: ألم تسمع ما قال أبو حُباب؟ -وهذا هو الشاهد- أي عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، فقال: ماذا قال يا رسول الله؟ فأخبره بالخبر، فقال: ارفق به يا رسول الله، فو الله لقد جاء الله بهذا الخير الذي أنزل عليك، والحق الذي أنزل عليك، وإن أهل هذه المدينة-أي: المدينة قد أطبقوا وأجمعوا على عبد الله بن أبي بن سلول أن يسودوه ونظموا له الخرز ويعصبوه بعصابة -أي يجعلوه ملكاً عليهم- فلما رد الله ذلك بالحق الذي أنزل عليك شرق به} والعياذ بالله.
فانظر كيف الحسد، فهو حسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصابته غيرة شديدة أنه زال الملك الذي كان يتربص وينتظر ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل هذا الحق، بل سار يظهر الإسلام ويبطن الكفر بعدما أعز الله الإسلام، فرفق النبي صلى الله عليه وسلم به، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كناه بـ أبي الحباب.
وتكنية المشرك تكون في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا اشتهر وعرف بذلك، كما كنى الله تعالى في القرآن الكريم أبا لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] فقيل: سُمي أبا لهب لأنه كان جميل الوجه، يتلهب وجهه حسناً وجمالاً، وتناسب هذا مع قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] .
ومثله أيضاً: أبو طالب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كناه أبا طالب كما في الحديث المتفق عليه عن العباس قال: {يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويحميك ويدفع عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم هو في ضحضاح من نار -أي شيء قليل من النار وفي رواية-: تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منها دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ولا يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، قال صلى الله عليه وسلم: ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فكناه أبا طالب لأنه معروف مشهور بذلك.
الحالة الثانية: التي يكنى بها المشرك والكافر: إذا كان في ذلك تأليف لقلبه، أو قلب من حوله، كما كنى الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول بـ أبي الحباب؛ لأن القوم كانوا يحبونه ويعظمونه، ولم يكتشفوا حاله، وربما في أول الإسلام كان له مكانة عندهم قبل أن يسلم أيضاً، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام امتنع من قتله تأليفاً لقلوب المؤمنين، فما بالك بأن يلقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكنيه أو ما أشبه ذلك.
الحالة الثالثة: التي يكنى بها الكافر: إذا كانت الكنية كنية ذم وحط من قدره، كما يقال -مثلاً- أبو جهل فإن تكنيته بالجهل ذم وحط من قدره ولا بأس بها.