وأخيراً طالعتنا صحيفة الكويت بمقال بعنوان: يوميات كاسيت، ففي يوم السبت تكلمت عن شريط أحد العلماء المحدثين المعروفين, وعلق كاتب المقال بقوله: نتمنى من بعض علمائنا الكرام أن يبقوا في مجال تخصصهم وألا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة, وهم لا يحسنون السباحة فيها, حتى لا يغرقوا ويغرقوا شبابنا الحائر معهم.
ويقول: وقديماً قال فقيه ألمعيٌ: بين أصحابنا من أرجو بركته ولا أقبل شهادته, قلت: -والكلام لصاحب المقال- في أمور السياسة, أي لا يقبل شهادته في الأمور السياسية.
فيا عجباً! متى كان الفصل بين الدين والسياسة؟! ومنهج من هذا؟! هل عندنا علماء نرجو بركتهم, ونقبل عنهم الحلال والحرام، ونأخذ منهم الحديث والعلم, ولا نقبل كلامهم في أمور السياسة؟! وهل أمور السياسة بمعزل عن الدين؟! هل هناك سياسة وهناك دين وهما طرفان متنافران؟! أم أن السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن والآداب والإعلام وكل أمور المجتمع يجب أن تخضع للإسلام؟ لا شك أن الجواب هو الثاني, ولا نعرف في دين الإسلام فرقاً بين شيء اسمه السياسة وشيء اسمه الدين, وما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها, والتي تتعلق بمصالح الأمة العامة؟! هل تريد أن يبقى العالم محصوراً فقط في أحكام الذبائح والصيد والنسك والحيض والنفاس والوضوء والغسل ومسح الخفين ويترك قضايا الأمة لغيره, ممن لم يتذوقوا طعم العلم الشرعي؟! ولم يعرفوا ببلائهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل؟! ولا شهدت لهم الأمة بالجهاد في ميدان دعوتها وإعادتها إلى الطريق المستقيم؟! هل تريد هذا؟!! هيهات! ألا تدري أنك بكلامك هذا قد أسقطت مجموعة هائلة من فتاوى وبيانات هيئة كبار العلماء في هذه البلاد, وهي فتاوى وبيانات تتعلق بأمور سياسية بجميع المقاييس, وأسندت الأمر في هذه الفتاوى بعد أن أسقطتها عنهم إلى من تنوبهم أنت, وتقبل شهادتهم.
إنك تطالب باحترام التخصص كما هو ظاهر من عباراتك, وهذا إجمالاً ممكن ومعقول, لكن لننظر هل هذه القاعدة عامة لكل الناس؟! أم أنك مستثنىً من هذه القاعدة؟! ولك الحق في طرح أي موضوع بدون استثناء؟! ما بالك خضت في قضايا مشرقة وأخرى مغرّبة؟! فأنت مرة اقتصادي ماهر ومحلل في مسائل التنمية تكتب كما في بحث أو مقال: أوهام وأضغاث أحلام في ملحمة التنمية، وذلك في مجلة الاقتصاد والإدارة, وتكتب بحثاً بعنوان: التنمية وجهاً لوجه، وهو كتاب مطبوع في سلسلة إصدارات تهامة.
ومرة أخرى أنت خبير في الصناعة والتخطيط الصناعي تكتب بحثاً بعنوان: "الجبيل وينبع كيف ولماذا؟ " وهو موجود في وزارة التخطيط بالرياض, وتكتب بحثاً آخر بعنوان: "الصناعة في الخليج آفاق جديدة"، وهو عبارة عن محاضرة صغيرة ألقيتها في جمعية المهندسين البحرينية, ومرة تكتب في الصحة والخدمات الصحية, حيث نشرت لك مقالة بعنوان: نحو خدمة صحية أفضل، ومرة أنت خبير في السياسة والعلاقات الدولية حيث دراساتك -رسالة الماجستير والدكتوراه- ومن ذلك مقال نشر بعنوان: "نظرية العلاقات الدولية هانس جي ونقاده" وحتى إنك ذكرت في مقابلة في المجلة العربية في هذا الشهر: أن المصلحة الوطنية -وهذا مما يتعلق بالخبرة والسياسة الدولية- تقتضي أنك عندما تكون حليفاً لدولة ما أن تعتبر كل ما يدور بداخل هذه الدولة خيراً كان أو شراً من شئونها الداخلية، أي من حقك أن تعقد حلفاً مع دولة مهما كان فساد هذه الدولة الداخلي, ولا يعنيك شأنها الداخلي, بمعنى أنك حين قلت قصيدة تمجد فيها صمود العراق في وجه إيران, يوم كانت العراق تحارب إيران حسب تصريحك أنت في العدد نفسه: مصيب ولست بنادم على القصيدة، أي من حقك -مثلاً- أن تتجاهل جرائم صدام حسين مع المسلمين الأكراد والسنة في العراق, ومجازره البشعة ضد العلماء في بلده وضد الدعاة, واستئصاله لشأفتهم, وقضاءه المبرم عليهم, وأن تعتبر هذا أمراً داخلياً لا شأن لك به، مادامت مصلحتك الوطنية تقتضي أن تكون حليفاً له, هذا معنى كلامك ومضمون حديثك, وهو جزء مما تتحدث فيه عن العلاقات الدولية والخبرة السياسية! ومرة أخرى أنت مؤرخ تنقل في مجلة اليمامة العدد 684 ورقة عائلية من تاريخ الطبري, لتستنج منها أن عمر رضي الله عنه يدعو زوجته إلى تناول طعام الغداء مع ضيف جاء إلى عمر من أحد البلاد, وأن الذي منع المرأة من ذلك فرفضت القدوم أنها ساخطة على عمر , وإلا كانت جاءت تأكل مع الضيف, ولماذا هي ساخطة؟! سخطت لأن عمر لم يشتر لها ملابس جميلة, كملابس فلانة وفلانة من نظيراتها, ثم عقبت على مقالك هذا بالهجوم على السادة الكرام الذين يتصورون أن المرأة مخلوق من الدرجة الثانية, وربما من الدرجة العاشرة، ولم تبين بالضبط من تعني بالسادة الكرام, فربما نكون نحن جميعاً من أولئك السادة الكرام! ومرة أنت مفسر ومحدث تنقل عن الطبري في تفسيره أقوالاً منكرة غريبة, وآثاراً مرفوضة, وتتجاهل كلام ابن كثير في نكارتها، وتتجاهل العقل الذي يرفضها وينكرها, وتتجاهل أن إسنادها مظلم كالليل، وتُمَكِّن لهذه الروايات لتستدل على بعض نظراتك التي تتعلق بالأوضاع السياسية في منطقة الخليج وما حولها! ومرة أنت باحث اجتماعي كما في كتابتك: "قضية القضايا وبقية القضايا"، حيث تحدثت عن التغيير الاجتماعي، وكيف يتم هذا التغيير، وأنه من خلال التغيير الاجتماعي يمكن أن تحسم قضايا كثيرة في المجتمع, كما حُسمت أمور سابقة, كقضية اللاسلكي -مثلاً- أو تعليم المرأة أو عمل المرأة أو قضية التلفاز أو غيرها, وأنه يجب أن يتم الحوار حول القضايا المفتوحة في جو هادئ, بعيداً عن التشنج والانفعال واستعداء السلطة على الرأي الآخر, وبعيداً عن الاتهامات التي تلقى جزافاً وبلا مبالاة, ولا أدري ما دمت تحذر من الاستعداء -استعداء السلطة على الرأي الآخر- ماذا كنت تعني بالضبط بقولك في يوميات كاسيت: أيتصور بعضنا جهاز الكاسيت معركة باردة؟! أي أن الجواب عندك أنها معركة ساخنة، فخذوا حذركم.
ومرة أخرى أنت كاتب أصولي في أصول الفقه, تكتب عن آداب الاجتهاد والاختلاف في الإسلام, كما في اليمامة، وتنقل عن ابن القيم رحمه الله، والإمام مالك رحمه الله، والإمام الشاطبي رحمه الله, وقد عددت في هذا الكلام نقولاً كثيرة, بل إن الكلام كله نقول، وختمت القول بقولك: ترى متى يتعلم المسلمون المعاصرون من أسلافهم العظام شيئاً من أدب الاجتهاد وأدب الاختلاف.
ونحن نوافق على أنه يجب أن نتعلم من أسلافنا كل شيء، وليس فقط أدب الاجتهاد والاختلاف, لكن لا أدري أين ذهبت هذه الآداب في مقالة الشريط؟! حيث برزت الاتهامات بالكذب والاختلاف, فظهر أنك تتهم بعض المتحدثين بأن هناك أشياء وقصصاً يروونها لا وجود لها إلا في خيالهم, ومعنى ذلك أنهم تخيلوا شيئاً واختلقوه، ورسموا منه قصة موضوعة وسردوا حكايات لا وجود لها إلا في خيالهم, ولا أدري لماذا التدخل في توزيع التخصصات والاستغناء عن خدمات العلماء, إنك تلمح بأن بعض المتحدثين في تلك الأشرطة أنهم كإذاعة بغداد، أو أنهم أخذوا عنها بعض ما يتكلمون فيه عن مخاطر وجود المرأة الأجنبية مجندة كانت أو غير مجندة على هذه البلاد وأخلاقياتها, وأن همهم إثارة البسطاء واستفزازهم بقصص خيالية, فهذا الكلام يصدق على الممثلين، ويصدق على الفنانين، ويصدق على المشتغلين بالإعلام، ويصدق على بعض الأدباء والشعراء الذين همهم إثارة البسطاء واستفزازهم, أما العلماء فإنهم يتكلمون عن حقائق ووقائع، وإن كانت لا تعجبك على كل حال, أين الأسلوب العلمي؟! أين الهدوء الذي تدعو إليه؟!.
وقد تحركت عاصفة جديدة في هذا الكلام، ولكنها عاصفة من نوع آخر غير العواصف التي تعودناها منك، في جريدة: الشرق الأوسط.
ومرة أخرى تتحول إلى مفتٍ يفتي في الجليل والحقير, ففي مقابلة مع عكاظ يفتي بالموسيقى، ويفتي بكشف المرأة لوجهها, ويقول: هاتوا لي دليلاً من الكتاب والسنة على تحريم قيادة المرأة للسيارة, والكلام المطروح حتى الآن غير مقنع عن هذا الموضوع.
وقد تجرأت أكثر وأكثر, حين كتبت في جريدة المسلمون في عدد هذا الأسبوع عنوان: "حد القذف: هل يشترط التصريح أم يكفي فيه اللتميح؟ " وهذا تدخل في أعمال القضاة, تحدث عن القذف وأنه حرام في الكتاب والسنة, وساق الأدلة على تحريمها، وأنا ألخص لكم الفائدة حتى تنتفعوا بها, ثم ذكر أن ألفاظه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صريح, كناية, وتعريض.
فما بقي لنا -بارك الله فيك وأصلحك الله- إذا وصلت لهذه القضية؟! ما بقي لنا؟! السياسية: لا تتكلموا فيها, والاقتصاد: ليس من شئونكم, والصناعة والصحة والإعلام, والآن جئت في تخصصنا أيضاً، في موضع القذف، وفي قضايا فقهية, تتحدث عن الأدلة، وتنقل وتقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وساق خلاف العلماء حول الكنايات والتعريض, كقول القائل لامرأة: يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة! ونقل مذهب الأحناف من كتاب سماه الميسور للسرخسي، هكذا في المطبوع، ويمكن أنه خطأ مطبعي أو أنه ليس من كاتب المقال, ولكن نشرت باسمه, ولا أستطيع أن أتكلم إلا بعد التثبت, قد يحصل شيء أو اعتذار عن هذا, على أي حال لا أعرف كتاباً بهذا الاسم, وكتاب المبسوط للسرخسي هو المقصود على كل حال.
ونقل من كتاب آخر اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، وهذا الكتاب يقول بعض علمائنا المعاصرين: إنه يجب إحراقه؛ لأنه كتاب غير موثق ولا يعتمد, ومع ذلك نقل مذاهب الفقهاء من هذا الكتاب, وعقب بقوله: فأعجب من نفر يدعون الغيرة على الأعراض، وهم يستخدمون ألفاظاً يستحق قائلها الحد أو التعزير، ومعروف من يقصد بذلك, ولا أدري بالضبط هل سمع هو أو سمع غيره شخصاً معيناً يرمي أحداً أو يقذفه بالفاحشة.
أصل القضية أن الكلام في حد القذف يفتقر إلى أن يكون أمامنا شخص قاذف فلان بن فلان قذف, بعد ذلك تبحث هل قذف بعبارة صريحة أم كناية أو تعريض، وهل يستحق الحد أو التعزير، أو هو مخطئ أم مصيب، هذا موضوع آخر, لكن الآن ليس أمامنا شخص