الهجوم على الشريط بحجة الخوف من الثورات

أولاً: الهجوم الغربي الكاسح على الشريط لم يعد سراً؛ فهناك جلسات كبيرة في دوائرهم الكبرى السياسية والإعلامية للكلام عما يسمى بمعركة الشريط, والهدف من ذلك تهويل الأمر وإثارة المخاوف من هذه الأشرطة؛ ولذلك تجدهم -كما قرأت في صحفهم واستمعت إلى أخبارهم- يربطونها بثورة إيران وما جرى فيها, وهم بذلك خبثاء بلا حدود؛ لأنهم يتجاهلون، ولا أقول: يجهلون، ولكنهم يتجاهلون عمداً الفوارق الأساسية بين البلاد, فبين هذه البلاد المباركة الآمنة الطيبة وتلك البلاد المليئة بالفتن فرق كبير لا يجهله أحد، سواء من الناحية الاعتقادية أو غيرها؛ فأولئك قوم من الشيعة الرافضة لهم اعتقاد خاص، ولهم مبدأ خاص، ولهم أسلوب خاص في معاملة بعضهم لبعض, وفي معاملة مجتمعهم وفي نظرهم للأمور, وفي هذه البلاد يخيم بحمد الله تعالى مذهب أهل السنة والجماعة بل العقيدة السلفية الصحيحة وآثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- باقية معروفة.

أما من الناحية العلمية فالفرق كبير جداً بين البلدين، فهاهنا العلم بحمد الله يمد رواقه ويضرب، وهناك ليس لديهم علم، إنما لديهم علماء يتبعون، وليسوا علماء بل علماء ضلالة، فالعامة تتبعهم دون روية ودون تبصر ودون تفكير قل مثل ذلك في الناحية الاجتماعية وتركيبة الناس وواقع الناس, إضافة إلى النواحي التاريخية، كل هذه الفوارق المؤثرة الكبيرة يتجاهلها أولئك حين يربطون هذه الأوضاع بما يجري أو ما جرى في تلك البلاد، ويهولون الأمر ويضخمونه من أجل تخويف الناس من هذه الأشرطة.

إيران بلد القلاقل وبلد الثورات وبلد الاضطرابات، وهي من بلاد المشرق, التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان} .

أما هذه البلاد فهي بلاد الحرم الآمن: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3] بلاد رعاة الغنم حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السكينة والهدوء عندهم، وهم أصحاب الصدق والوضوح والصلاح والاستقامة وتوافق ظاهرهم مع باطنهم, فمن يقيس هذا على ذاك كمن يقيس الخمر على اللبن، كما يقول بعض الإخوة, وهي (شنشنة نعرفها من أخزم) فإن هذه الدوائر تهدف إلى استعداء القادرين على الإسلام وأهله، واختلاق أوهام كبيرة في النفوس لا حقيقة لها, وهذا ليس بغريب، ولكن الغريب أن يتلقف بعض الموتورين هذه الأفكار الغربية الأجنبية, ويأخذونها معلبة وينشروها بأسمائهم دون أن يذكروا المصادر التي نقلوا منها وأخذوا عنها, ولو على الأقل من باب الأمانة العلمية.

فمن زمن حين ثارت قضية الحداثة نُشِرَ في جريدة اليوم في عددها رقم خمسة آلاف وثلاثمائة وتسعة وتسعين مقال بعنوان: فوضى الكاسيت، وتحدث المتحدث في هذا المقال، فجمع بين جلسات الطرب وجلسات الوعظ على حد سواء, وقارن الأغاني الغربية بالخطب العصماء على حد تعبيره, وأبدى امتعاضه من الرواج الكبير التي تلقاه الأشرطة الدينية كما يقول, وذكر أنها أصبحت نوعاً من التجارة الرابحة لدى الباعة الذين لا يريدون خيراً من وراء تسويق هذه الأشرطة كما يقول، وإنما هي متاجرة بالدين لا تليق بمسلم, ووصف المتحدثين بتلك الأشرطة بأنهم لا يعلم إلا الله مدى تمكنهم من الحديث والطرح الجاد لصالح الإسلام والمسلمين, فهو ينتقد أصحاب التسجيلات، وينتقد بعد ذلك الذين يتحدثون في تلك الأشرطة الدينية والخطب العصماء كما يسميها, ووصف ما يجري بأنه نوع من العبث, وأنه خطر داهم لا يمكن الاستهانة به, بل لا بد من التعامل معه بحزم حفاظاً على ماذا؟ ليس حفاظاً على سمعته الشخصية ولا على مكتسباته الحداثية، وإنما يقول: حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف, تبارك الله! هذه الغيرة الكبيرة ما عهدناها إلا حين جاءت قضية الشريط الإسلامي! حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف وصيانة للمجتمع من عوامل الانشقاق, إذا تسربت إليه بذور الشر وعوامل الانشقاق! الذين يبثون لانشقاق في المجتمع هم الذين يدعون إلى التوحيد وإلى الصلاة والزكاة والصوم والحج, وهم الذين يحاربون النحل الضالة من العلمانية والحداثية وغيرها, أما أصحاب الحداثة الذين ينشرون سمومهم في هذا المجتمع، ويبثون أوبئتهم، ويدسون رءوسهم في كل مكان، ويدسون أنوفهم في كل مكان, فهؤلاء هم دعاة الوحدة الوطنية أجاركم الله! يقول: لا بد من صيانة المجتمع من بذور الشك التي تنشر على أيدي أولئك الذين يفترون على الله الكذب, وهو لم يحدد من هم , فهذا الكلام نفسه ينطبق على حد زعمه على كل من يتكلم في هذه الأشرطة التي تحدث عنها.

عجباً ما هذا الفزع؟! ما هذه الغيرة العجيبة على الدين وأهله؟! أين هذه الغيرة من تلك الأشرطة التي تتاجر بالعفاف كما أشرت قبل قليل؟! وتبيع الرذيلة عياناً بياناً وتفتك بالشباب؟! وأصحابها منك قاب قوسين أو أدنى؟! وما هذا الاطلاع على دخائل القلوب وما تكنه النفوس والضمائر؟! حين تصف هؤلاء بأنهم يتاجرون بالدين وأنهم وأنهم؟! ثم أين الثقة بالمجتمع؟! لقد عهدناكم تقولون: إن المجتمع محل ثقة, وإننا نريد أن تتاح الفرصة لكل أحد أن يطرح ما عنده من أفكار ومذاهب ونظريات, هكذا تقولون! والمجتمع محل ثقة، لا مانع من طرح كل شيء ليأخذ ما يريد بحرية، ويترك ما يريد بحرية، ولا بد من إتاحة الفرصة لما تسمونه أنتم بالرأي الآخر, فأين هذه الثقة التي كنتم تمنحونها المجتمع؟! لماذا سحبتموها من المجتمع؟! ووصفتم المجتمع بأنه كما يقول كاتب المقال: بأنه من العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون؟! لماذا لا تقول أيضاً: إن هؤلاء العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون يجب حمايتهم من الحداثة؟! ويجب حمايتهم أيضاً من العلمانية؟! ويجب حمايتهم من الفكر الدخيل الذي يأتي على شكل قصة أو قصيدة أو شعر أو مقالة؟! ويجب حمايتهم من دعاة التخريب والتغريب بل من دعاة الاستعمار الذين يمدحون الاستعمار على صفحات جرائدنا ومجلاتنا؟! ويقولون: إن هذا الاستعمار وإن أخذ أموالنا إلا أنه نَوَّرَ عقولنا وأفكارنا… إلى هذا الحد! ولماذا لا تطالب بحماية الناس من تلك الأفكار والمبادئ التي غزت كثيراً من شبابنا ومثقفينا، وجعلتهم يرددون نظريات الغرب, وتحليلاته دون تعديل يذكر؟! لماذا تغفل عن هذا كله؟! وتجعل همك حول هذه الأشرطة؟! ثم هل أنت على درجة تستطيع أن تقول على هؤلاء: إنهم يفترون على الله الكذب؟ إن كنت عالماً جليلاً فقيهاً نبيلاً تربيت في حلقات العلم, وأخذت من العلم الشرعي بنصيب، وأذنت لك الأمة، فنعم من حقك أن تحكم على أحد أنه يفتري على الله الكذب, أما أن تصف أناساً هم بلا شك أقدر منك في مجال الشرعيات وأدرى منك في هذه الأمور بمثل هذه التهمة، فذلك كما يقول المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت، فهذا هو العجب العجاب! وكتب آخر في جريدة عكاظ "باتجاه المطر"، وأشار إلى قضية مهمة, يقول: إن كثيراً منهم معزول, ويتحدث عن نفسه أنه وجد نفسه معزولاً حتى من أقرب الناس إليه, حتى زوجته وبنته وولده؛ حيث يتهمونه بالزندقة والمروق من الدين, لماذا؟ لأن هناك أشرطة تحدثت عن الفاسدين والمفسدين والعلمانيين والحداثيين وغيرهم, وهذا يؤكد فعلاً أن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع متدين, وقد سبق أن ذكرت في بعض المناسبات أن الإنسان المنحرف يجد نفسه معزولاً محصوراً حتى بين أقرب الناس إليه, وهذا مصداق ما كنت ذكرته, فهو يقول: إن الزوجة والتلاميذ والأولاد والجيران والأقارب والمعارف كلهم أصبحوا ينظرون إليه شزراً، وكأنه ملحد أو كأنه زنديق.

وسبب ذلك ما هو؟ يقول كاتب المقال: إن سبب ذلك صكوك النار التي منحها البعض له ولأمثاله من الذين يفكرون بشكل مغاير للسائد, يفكرون بطريقة مخالفة لما عليه المجتمع، ولذلك يزعم أن هؤلاء أعطوه صكاً إلى النار.

ولا شك أن هذا من تهويلهم ومبالغتهم وبعدهم عن الأمانة العلمية؛ فإن صكوك الجنة وصكوك النار هذه لدى النصارى, ونحن المسلمين هاتوا لنا رجلاً واحداً حكم عليه بأنه كافر, هاتوا لنا عالماً أو طالب علم أو داعية أو سمى شخصاً وقال: فلان كافر, أين هذا؟ كونك تقول: هذا العمل كفر, فهذا شيء, وكوني أحكم على الشخص أنه كافر، فهذا شيء آخر, أنا قد أقول مثلاً: إن هذا القول كفر, وأقول ذلك إذا كان القول كفراً، لكن لا يلزم أن أحكم على كل من قاله بأنه كافر؛ لأنه قد يكون قاله جاهلاً أو قد يكون تراجع عن ذلك وتاب منه, وهناك احتمالات كثيرة تمنعني من أن أصدر حكماً عليه شخصياً , لكن يمكنني أن أحكم على الفئة نفسه بذلك، وهم لا يميزون بين هذا وذاك.

وهو وغيره لا يدرون الفرق بينهما؛ ولذلك يتحاملون على طلبة العلم والدعاة والعلماء بمثل هذا الكلام الذي ذكرته, ولذلك يصيح مثل هذا الإنسان يقول: أنقذونا قبل أن تصل النار إلى رءوسنا.

ويكتب ويقول: لماذا يأتي المتحدث في شريط؟ لماذا لا يأتي في النور ويتكلم أمام الجميع؟! فأقول: سبحان الله! هل تركتم مجالاًَ لأحد يتحدث؟! لقد أمسكتم بخناق الصحف ووسائل الإعلام, فأصبحتم لا تأذنون غالباً إلا بالمادة التي تخدمكم، وتئدون وتحاربون كل صوت حر نزيه يفضح ما أنتم فيه أو يخالف ما أنتم فيه, فلا تنشرون من ذلك إلا النزر اليسير.

أما الصوت الذي يؤيدكم ويوافق ما أنتم عليه، فإنكم تلمعونه وتنشرونه, وإن كان ضعيفاً صححتموه، وبالغتم في نشره ونفختم فيه حتى يصبح ذا شأن, فلم تدعوا مجالاً لأحد ليتكلم، ولم يبق للدعاة إلى الله عز وجل إلا المسجد والمنبر والمنصة وما يتبع ذلك من هذا الشريط الذي يعبرون فيه عن الرأي الصحيح, ومع ذلك انزعجوا وصاروا يشنون مثل هذه الحملات التي أشرت إلى شيء منها.

وزعم الكاتب أن الزمن هو الوحيد القادر على فرز الجيد من الرديء من الأفكار, وهذا زعم غريب؛ فالزمن لا يأتي بفرز الجيد من الرديء! وهانحن بعد مرور مئات السنين بل آلاف السنين, نجد الجدل يحتدم بين نظريات فلسفية قيلت منذ قرون طويلة؛ فالزمن لا يحسم شيئاً, وكون الشيء وقع وتحقق في مجتمع الناس لا يصيره صحيحاً مشهوراً، وقد يقع أمر وينتشر بين الناس ويروج ويكون خطأً, ويكون هناك صواب مغمور, فليس الزمن وحده الكفيل -كما تزعم- أبداً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015