انتقاص الأشخاص

الملاحظة الأولى: هي ضرورة الاعتدال في تقويم هؤلاء الأشخاص, فإنه ليس أحد منهم ولا من غيرهم إلا وفيه نقص, وليس من العدل أن تُعنى ببيان المثالب وجوانب النقص والعيب الموجودة فيهم, وتغفل عن الفضائل والحسنات الموجودة فيهم؛ لأن العناية بمثالب هؤلاء القوم ونقائصهم هو منهج صادر عن انحراف في نفسية الذي ينتقدهم، فإذا رأيت إنساناً يكثر من نقد الناس ويركز على مثالبهم, فيجب أن تعرف أن هذا الأسلوب يرجع إلى نوع من الكبر الموجود في نفسه؛ لأن الشخص المتكبر غالباً يريد أن يضع من أقدار الأشخاص المشهورين, حتى يتفرد هو بالشهرة والكمال, فتكون لديه شهوة الحط من أقدار الرجال، فلان فيه كذا, وفلان كذا, أو فلان قال في الكتاب الفلاني كذا, أو فلان له موقف كذا, ويا ليته يذكر الحسنات، لا, إنما يُعنى بذكر المثالب والأخطاء، هذا لو فرض جدلاً أنها مثالب وأخطاء, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا, فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس} بطر الحق، يعني: رده، وغمط الناس، يعني: بخسهم أشياءهم.

فالإنسان المتكبر يبخس الناس حقوقهم وأشياءهم, وينظر بعين واحدة لا ترى إلا الأخطاء, بل إنه يرى الحسنات نفسها أخطاءً، وحينئذٍ يصدق عليه قول الشاعر: إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت عيوبًا فقل لي كيف أعتذر وعلى سبيل المثال: لو نظرنا إلى شخصية الشيخ الألباني في هذا العصر, لوجدنا أن للشيخ جهودًا كبيرة في خدمة السنة النبوية, وتقريبها بين أيدي الناس, وتنقيتها من الشوائب: من الأحاديث الموضوعة والضعيفة, وغيرها.

وكتبه لا تخلو منها مكتبة, فللرجل جهود تذكر فتشكر, فضلاً عن جهوده في نشر السنة العملية بين الناس, وتربية الشباب عليها, وهذا عمل لا شك أنه عمل مشكور, وكثير من الناس يتجاهلون هذه الجوانب الإيجابية في شخصية الشيخ, وينظرون نظرة ناقصة إلى بعض الأخطاء التي لا يخلو منها بشر.

مثلاً: ينظرون إلى جانب الحدة في الشيخ؛ وكون الشيخ حادًا حين يقوم الأشخاص والأعمال والكتب, فهو في مقدمة كثير من كتبه قد يتناول بعض ما صدر من كتب أو تحقيقات, ويعلق عليها تعليقات قد تكون شديدة اللهجة أحيانًا, صحيح أن الأولى في هذه التعليقات والتعقيبات أن يكون بأسلوب أكثر هدوءًا, وأكثر لطافة، لكن لماذا يبرز هذا العيب، ويغطي على حسنات الرجل وفضائله؟ بل إنك تجد من الناس من يحول بعض فضائل الرجل إلى عيوب, كمن يطعن في الرجل -مثلاً- بعنايته بدراسة الأسانيد والأحاديث وتصحيحها وتضعيفها, والكلام في الرجال، ويعتبر أن هذا من إضاعة الوقت والعمر بلا طائل.

وخذ نموذجًا آخر: الشيخ حسن البنا رحمه الله، رجل داعية أثر في المجتمع المصري تأثيرًا كبيرًا, وقُتل -كما نحسبه إن شاء الله- في سبيل الله تعالى، وترك آثارًا طيبة بكل حال, سواء آثاراً عملية أو ما كتب في عدد من الموضوعات.

فهذا الرجل تجد أن كثيرًا من الناس ينظرون إليه نظرة معينة فيها كثير من التنقص، والإشارة إلى ضعف علم هذا الرجل مثلاً, وأنه لا يتقن فن الحديث, لماذا؟ لأنه نقل تخريجاً لأحد الأحاديث من العراقي أو من غيره, أو ذكر حديثًا في المسند أو في غيره ولم يتعقبه ولم يتكلم فيه, بل وقد ينتقد لأنه اجتهد في عدد من المسائل الدعوية والواقعية؛ اجتهادًا قابلاً للنقاش والأخذ والرد, وقد تجد من ينتقد الرجل لأنه تكلم في عدد من مسائل الاعتقاد كلامًا يخالف ما عليه منهج السلف الصالح.

والذي يجب أن يعلم هو أن الحق أغلى في نفوسنا جميعًا من الرجال, فنحن لا يجوز أن نجامل أحدًا من أجل أنه فلان, أو فلان، على حساب الحق, وحين يخطئ فلان أو فلان لا يُجامل، والمقصود -الآن- الإشارة إلى أن هذا الخطأ يجب أن يوضع في إطاره الصحيح, فلا يسقط الرجل، بالكلية بل يقال أخطأ في كذا، ويبقى للرجل منزلته وكرامته وبلاؤه في الإسلام.

ومن الأمثلة أيضاً: ما يكتب ويقال عن الشيخ أبي الأعلى المودودي من أن فيه نظرًا لكلامه في عدد من المسائل الإعتقادية والدعوية والفقهية، كلاماً فيه شيء من الخطأ, وفيه أشياء هي من الأمور الاجتهادية القابلة للنقاش, لكن تجد في بعض الكتابات التي صدرت عنه نوعًا من الإجحاف في حقه.

فهذه النظرة التي لا ترى إلا جانب الخطأ يجب أن يتقيها الشباب المسلم, ويدرك أننا لو عممنا هذا المنهج لما بقي لنا أحد, فإننا لو نظرنا حتى في رجالات الإسلام السابقين المرموقين لوجدنا أنهم تعقبوا في أشياء عديدة.

فمثلاً لو نظرت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لوجدت له كثيرًا من الاجتهادات الفقهية والأصولية والعملية, خالفه فيها غيره، وقد يكون الحق معه وقد يكون الحق معهم في مسائل معينة, وفي مسائل يُجزم بأن الحق مع غيره ولو كانت يسيرة أو قليلة, فهذا لا يغض من قدر الرجل وقيمته عند أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة.

ولو نظرت إلى الإمام الذهبي وقرأت في كتبه لوجدت أن له مواقفاً منتقدة هنا وهناك, ولو نظرت إلى الإمام النووي , وابن حجر وغيرهم, لوجدت أنه لا أحد يسلم من خطأ ولو يسير, وهذه حكمة لله عز وجل, أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه, وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله, وكون الشخص يعد له خطأ أو خطآن لا يعني سقوط شخصيته أو انتهاء دوره, فهذه ملاحظة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015