الملاحظة الثالثة والأخيرة في هذا المجال: ولا أكتمكم بأن هذه الملاحظة وإن كانت هي الأخيرة إلا أنها في نظري مهمة, لأنها ملاحظة تتعلق بواقع الدعوة الإسلامية اليوم، وطريقة الشباب في اتباع الرجال, وإن شئت فقل في تقليدهم, وذلك أننا نجد -كما ذكرت في مقدمة حديثي- عددًا كبيرًا من الشخصيات الإسلامية موزعة في تخصصات شتى, فأنت تجد فلانًا في مجال الفقه, وآخر في مجال الحديث, وثالث في مجال الدعوة, ورابع في مجال الوعظ, وخامس في مجال الجهاد, وسادس في مجال الإصلاح الاجتماعي, وسابع في مجال الآداب والشعر, وهكذا.
فكثير من الشباب اليوم تضطرب في أيديهم الموازين، وحين يرون شخصًا قد أبدع ونبغ في مجال، يعتقدون أنه نبغ في كل مجال, فيتحول الخطيب في ذهنهم إلى فقيه ومحدث وإمام وداعية ومرجع في كل شيء, ويتحول الفقيه إلى إنسان يستشار في القضايا الاجتماعية والقضايا الدعوية وربما قضايا سياسية وأدبية وغيرها, وهذا ينافي وضع الشخص في موضعه المناسب, فأنت قد تجد إنسانًا لو سألته عن مسألة في الفقه لوجدته بحرًا لا ينضب, فهو يذكر لك الأقوال والأدلة ويحكم على الأحاديث, ويرجح فتصدر عنه وقد قنعت ورويت, لكن لو سألته عن قضية أخرى بعيدة عن تخصصه لوجدته أشبه بالعامي فيها.
وقد تجد شخصًا آخر يتقن فن الخطابة, فهو يجيد الوقوف أمام الناس والتحدث إليهم بطلاقة وإثارة عواطفهم, ويتكلم بحماس وعاطفة وصدق -إن شاء الله- ويؤثر, وهذا شيء طيب، والمسلم يجب أن يستفيد من هذا وهذا, لكن هذا الخطيب لا يعني أنه تحول بقدرة قادر إلى فقيه ومحدث وإمام ومفتٍ وكل شيء, بل ضع الشخص المناسب في المكان المناسب, فهذا خطيب لا بأس أن تستفيد به في أسلوب الخطابة, وطريقة الخطابة, وبعض الموضوعات التي يناسب الحديث عنها, وما أشبه ذلك.
ثم إذا عرضت لك مسألة فقهية تستفيد ممن هو أهل لها من العلماء والفقهاء والمفتين، وإذا أشكل عليك حديث تستفيد ممن هم أهل تخصص في هذا المجال, فإذا كانت القضية دعوية: استفدت ممن له خبرة في مجال الدعوة, وهكذا يمكن أن تستفيد أيها الشاب ويستفيد المسلمون جميعًا من هذه الشخصيات الإسلامية في كل مجال, دون أن نرفع الشخص عن قدره.
ومما يدلك على أن كثيرًا من الشباب تغيب عنهم هذه القضية؛ أننا نجد في واقعنا أن المتحدث -المحاضر- حين ينتهي من محاضرته، وأنا حين أنتهي الآن من هذه المحاضرة لو كتب لكم أن تستعرضوا هذه الأسئلة التي يستعرضها الأخ الآن, لوجدتم أن هناك من يسأل عن موضوع طبي, وهناك آخر يسأل عن موضوع اقتصادي يتعلق بقضايا البنوك، وهناك ثالث يسأل عن مشكلة اجتماعية, ورابع يسأل عن قضية تاريخية, وخامس يسأل عن مسألة أدبية, وهكذا، فلماذا تغيب قضية التخصص في أذهاننا فنعتبر أن من تحدث في موضوع يمكنه أن يتحدث في كل موضوع؟ وهذا الخطأ -أيها الإخوة- يزداد الأمر فيه، حتى أنك تجد أحيانًا أننا قد نسند هذه القضايا إلى أشخاص ليس لهم علاقة بهذا المجال بالكلية؛ سوى أنهم اشتهروا في مجال معين, وقد أضرب مثالاً لذلك.
فقد يبرز شخص -مثلاً- في جودته في قراءة القرآن, وهو ذو صوت عذب في القراءة, وهذه لا شك ميزة يمتن الله بها على من يشاء من عباده, لكن كون هذا الشخص مجيدًا لقراءة القرآن مثلًا لا يعني أنه فقيه أو داعية, فتجد أن كثيرًا من الشباب لا ينظر إلى الشخص إلا نظرة كلية، إما أن يعطوه (100%) أو يعطوه صفراً, فإذا برز في مجال اعتبروه بارزاً في كل مجال, وهذا الخطأ ينعكس -أيها الشباب- في كثير من الأحيان بالصورة التالية: فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي برز على أنه كل شيء -وخذوا في أذهانكم أي شخصية من الشخصيات المعروفة في المجتمع- وهذا الشخص أصبحنا ننظر إليه على أنه بارز في كل شيء وفي كل مجال, ويمكن أن يتحدث في كل موضوع, ثم بعد فترة وخاصة حين نكبر وتكبر عقولنا ونطلع, نكتشف أن هذا الشخص قد أخطأ في مسألة, أو أن هذا الشخص عنده نوع من الضعف في تخصص من التخصصات, فتجد أننا كما أننا بالأمس أخطأنا فرفعنا هذا الشخص فوق منزلته, تجدنا اليوم نخطئ مرة أخرى فنحط من قدر هذا الشخص وننسى فضائله لأننا اكتشفنا أن عنده خطأ.
وأعرف بعض الشباب يقدرون أحد الشيوخ، وهو أهل للتقدير والفضل في علمه وورعه وتقواه ومنزلته وجهاده في سبيل الله -أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدًا- فينظرون إلى هذا الشيخ على أنه قدوة ومثل أعلى في كل مجال, ثم بعد فترة يكتشف بعض هؤلاء الشباب من قربهم من هذا الشيخ واحتكاكهم به أن هذا الشيخ عنده نقص في مجال من المجالات، فقد لا يكون في ميدان مواجهة الواقع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدرجة المطلوبة؛ لأنه مشغول بقضايا علمية وفقهية, عن معرفة ما يجري في الواقع, فحين يكتشف هؤلاء الشباب هذه الثغرة الطبيعية, ينعكس الميزان في نفوسهم فيسقط هذا الشيخ من عيونهم, وهذا خطأ ولّده الخطأ الأول.
ولذلك ينبغي علينا جميعًا أن نضع الأشخاص في مواضعهم الطبيعية، كل في مجاله, فهذا بارز في الخطابة, وهذا بارز في الفتيا والفقه والعلم الشرعي, وهذا بارز في الحديث, وهذا بارز في الدعوة, وهكذا، حتى إذا وجدنا عند أحد منهم نقصاً في مجال غير مجاله, اعتبرنا أن هذا الأمر طبيعي؛ لأنه النقص الذي يعتري البشر.
وأريد أن أتحفظ على فهم قد يسبق إلى ذهن البعض وهو أننا نقول: إن الدين والعلم الشرعي مهيمن على جميع هذه الأشياء, وهذا لا شك فيه، فالعلم الشرعي مهيمن على كل الأمور, وهو الميزان, لكن هناك قضايا ليست في أمور الحلال والحرام والأحكام, وإنما هي قضايا تتعلق أحياناً بالواقع, وأحياناً بالأدب والشعر, وأحياناً بقضايا تاريخية, وأحياناً بأمور خطابية, وأحياناً بوسائل من وسائل الدعوة التي الأصل فيها الإباحة, فمثل هذه الأمور ينبغي أن نراعي فيها جانب التخصص.
هذه أبرز ثلاث نقاط، أحببت أن ألفت نظر إخوتي الشباب إليها, وهم ينظرون إلى من هم في موضع الأسوة والقدوة.