فهذا الإنسان وأيّ إنسان يقع عنده الاستكبار والغرور، كيف يعالج هذا الاستكبار؟ التذكير بالله: أولاً: يعالج بتذكيره بالله عز وجل؛ لأن الإنسان المستكبر إنما استكبر في نفسه حين غفل عن ربه فوقع في القضية التي ذكرتها لكم في البداية، فهو قد كبر في عينه الصغير وصغر في عينه الكبير، فنفسه الصغيرة كبرت حتى صارت الأنا ملء الدنيا عنده، والله جل جلاله بعظمته وكبريائه صغر في عينه حتى لا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يرجوه، فهنا حصل الوهم عند الإنسان، ولذلك تجد عند الإنسان من الوهم بقدر ذلك، فأحياناً قد تجد إنساناً طيباً مسلماً قد يشعر أو يحس أو يسمع بانتقاص الدين أو سب المؤمنين أو سب الرسل أو حتى سب الله عز وجل، فلا يغضب ولا يثور؛ لكن لو سمع أحداً يسبه لغضب وزمجر وأرغى وأزبد وقام ليدافع عن نفسه، فعلامَ يدل هذا؟ يدل على الأنا؛ وأن عندك قدر من الأنا، فهو وإن لم يصل إلى حد الشرك؛ لكنه وهم يجب أن تنتصر عليه بحيث يكون غضبك لله ورسوله ودينه؛ أعظم بكثير من غضبك لنفسك.
وأنا أدعوكم مرة أخرى -يا أحبابي- إلى أن تطبقوا هذا المعيار على أنفسكم، هل فعلاً نحن نغضب لله ولرسوله مثلما نغضب لأنفسنا؟ فإذا قيل لك: إن المكان الفلاني فيه معصية أو في البلد الفلاني ترتكب فيه معصية؛ فانظر وراقب ما هي المشاعر التي تثور في قلبك؟! ثم إذا قيل لك: إن بعض الجيران قد أعطى ولدك كفاً بغير حق، فانظر ما هو الشعور الذي يثور في نفسك؟! ومثال آخر: قيل لك: إن هناك كاتباً أو شاعراً في أقصى الدنيا ألف كتاباً يسخر فيه من الأنبياء والمرسلين فانظر ماذا يكون رد فعلك؟! ولو قيل لك: إن آخراً ألف كتاباً يهجوك ويسبك ويشتمك وينسبك إلى أن فيك كيت وكيت من النقائص، فماذا يكون رد فعلك؟! قارن بين الحالتين حتى تعرف: هل كبر الله جل وعلا في عينك أم كبرت في عينك نفسك، فكبر في عينك الصغير وصغر في عينك الكبير.
فلا بد أن يعرف الإنسان ربه جل وعلا حق معرفته بقدر ما يطيق، وأن يتعرف إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وآياته وسننه وأفعاله جل وعلا.
تسليط الدنيا على ابن آدم: والأمر الآخر الذي يعيد الإنسان إلى الاعتدال ومعرفة نفسه: عبر الحياة ومآسيها، أن الله تعالى سلط الدنيا على بني آدم، فهؤلاء الذين يكبرون في عيون أنفسهم ويستكبرون سرعان ما يصغرون حتى يصيرون أصغر من النمل، سبحان الله! كتب الله أن يفتضحوا في الدنيا قبل الآخرة! ولنفرض أنه سليم من الأمراض ولا يسلم، وسلم من الآفات والفقر والجوع لكن الموعد عند الموت، فيصبح هذا الإنسان المستكبر أحقر من ذبابة، فـ أمية بن أبي الصلت كان مستكبراً، حتى أنه من استكباره رفض الانصياع للرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ انظر ماذا كان حاله عند الموت؟! عند الموت أصبح يتقلب ويقول -كأنه يخاطب الملائكة-: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما ثم قال: ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في رءوس الجبال أرعى الوعولا كل عيش وإن تطاول دهراُ صائر مرة إلى أن يزولا وكذلك الملوك والسلاطين والخلفاء الكبار، حين نزل بهم الموت كان الواحد منهم يتمنى أنه كان فقيراً لا يعرف؛ لأنه ذهب صفو الدنيا -بالنسبة لهم- وبقي لهم الكدر في الدنيا وفي الآخرة.
فالذين يدركون تحول هذه الحياة وسرعة انتقالها؛ لا بد أن يدركوا أنهم أضعف من أن يكبروا في عين أنفسهم، وأن الإنسان لا حول له ولا قوة إلا بالله.
أحبتي الكرام: -كما أسلفت لكم- الأوهام كثيرة: وهم الدنيا، وهم الموت، وهم الخوف، من المخلوقين، وهم اللذة، وهم الشعور بالعجز، وهم استكبار الإنسان، كل هذه الأوهام عندنا قدر منها، سواء قل أو كثر.
فأدعو الإخوة إلى أن يراجعوا أنفسهم ويكونوا صرحاء للغاية لعل الله عز وجل أن ينقذنا من هذه الأوهام؛ لنعيش في دنيا الحقائق.