كما أن هذه النظرة إلى الموت أكسبت المؤمنين الشجاعة في مواقفهم؛ لأنه ليست الشجاعة في الحروب فقط، فالشجاعة تكون أيضاً في المواقف، فما هو الذي يمنعني ويمنعك من أن نقول كلمة الحق ونصدع بها ونجهر بها؟ إنه الخوف؛ ورأس الخوف من الموت، لكن حين يتحرر الإنسان من الخوف، وعلى رأس ذلك الخوف من الموت؛ تزول عنده المخاوف والأوهام فيصبح هذا الإنسان يتعامل مع الحقائق؛ فهو يقول كلمة الحق ولا يبالي؛ لأنه يعرف أن الموت سوف يأتي في الوقت المكتوب -لا يتقدم ولا يتأخر- فلا يرهبه؛ فحينئذٍ: تجد أنه إذا اقتنع بأن من المصلحة أن يقول الحق: قاله ولا يبالي ولا يخاف.
والأمثلة على الصدق والقوة في الحق بسبب التحرر من الدنيا كثيرة، ولعل ما ذكرته لكم في المجلس السابق من قصص العز بن عبد السلام رحمه الله! هي أنموذج للتحرر من الموت الذي جعل العلماء ينطلقون من هذه الأوهام ويتخلصون منها، فيكون الواحد منهم شجاعاً في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله! وهو أحد العلماء المشهورين بالنطق بكلمة الحق والجهر بها، يقول: قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ وأنني مولعٌ بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضو على صم الحصى كمداً من مات من غيظهم منهم له كفن ولما أحرقوا كتبه رحمه الله -كما ذكرت هذا في غير هذه المناسبة، فقد أحرقوا كتبه من باب الغضب عليه، والحقد والكراهية- تحداهم! ولاحظ التحرر من الأوهام، وهذا وهم آخر، وهم الخوف على الكتب، والخوف على العلم، الخوف على المنصب، والخوف على المكانة، هذا وهم تحرر منه ابن حزم فكان يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدرِي يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبريِ دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدريِ وإلا فعودوا في الكتاتيب بدأةً فكم دون ما تبغون لله من ستر كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر إذاً: قضية التحرر من الموت هو سر الشجاعة التي يتميز بها المسلم، سواء كانت الشجاعة في ميدان المعارك أو الشجاعة في كلمة الحق.