إما إنسان لا يؤمن بالدار الآخرة، كافر والعياذ بالله، فيرى أنَّ قصاراة هذه الدار الدنيا، ولسان حاله كما يقول أحد الزنادقة: خذ من الدنيا بحظ قبل أن تنقل عنها فهي دارٌ لست تلقى بعدها أطيب منها فهل هذا الكلام صحيح أم خاطئ؟ ليس بالضرورة أن يكون خطأ، فقد يكون صحيحاً بالنسبة له هو؛ لأنه إذا لم يكن تاب من هذا الكلام فهو من الكفار، والكفار عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا؛ فالكافر قطعاً لن يلقى بهذه الدنيا داراً أطيب منها، كيف وهو ينقل من نعيمه وملذاته وبيته وقصوره وجماله وزيناته وأمواله؛ ينقل إلى العذاب والعياذ بالله؛ وينقل إلى سخط الله عز وجل، وينقل إلى الملائكة الذين يضربونه في قبره بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعه كل شيءٍ إلا الجن والإنس -كما في حديث البراء وهو حديث صحيح- فصحيح أن الدنيا للكافر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} .
ويروى أن الـ حافظ ابن حجر رحمه الله -ذكر في ترجمته- أنه مر بموكب -وابن حجر كان إماماً جهبذاً، له مكانه وفضله -فكان يمشي معه الناس في السوق- فمر في موكب حسن برجلٍ من اليهود في مهنة رديئة -كأن يكون مثلاً: يمسح الأحذية أو غير ذلك - فوقف هذا الرجل الكافر للإمام الـ حافظ ابن حجر وقال له: أريد أن أسألك سؤالاً، قال ما لديك؟ قال: أليس رسولكم -ونقول نحن صلى الله عليه وسلم- يقول: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} قال: بلى، قال: لكن أنت الآن في جنة وأنا في سجن؛ فكيف يحصل هذا؟! قال: نعم، أنت الآن وإن كنت في سجن إلا أنك إذا نسبنا ما أنت فيه وقارناه بما أنت صائر إليه في الدار الآخرة إذا ما لم تكن أسلمت فهو يعتبر جنة؛ وكذلك أنا؛ إذا وفقني الله عز وجل وسددني وثبتني ومت على الإسلام والإيمان، فما أنا فيه بالقياس إلى ما أنا صائر إليه من النعيم المقيم هو يعتبر سجناً، فأسلم هذا اليهودي، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولذلك فإن الكافر يريد أن يأخذ مثلما سمعتم في البيت السابق الذي يقول: خذ من الدنيا بحظٍ قبل أن تنقل عنها أي: يريد أن يأخذ من هذا النعيم؛ لأنه ليس عنده إلا فترة واحدة، فقط وهي الدنيا، فيأخذ منها بقدر ما يستطيع، فهو يملئ فرجه وبطنه ويده من الشهوات بقدر ما يستطيع.
ولذلك عمر الخيام وهو أحد شعراء الفرس المشهور بالخمريات وشعر الغزل، والعكوف على الشهوات، له قصيدة -ضمن الرباعيات المشهورة له- يخاطب ساقيه أو منادمه فيقول: أفق وصب الخمر أنعم بها … إلى أن يقول في البيت الذي بعده: وُروِّ أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من شربها يعني: عجل اسقني الخمر قبل الموت.
إذاً: الكافر هذه فلسفته وهذا مذهبه، يقول: عجل واشرب من الخمر وارتكب من الحرام، واملأ نفسك من الملذات؟ لأنه ليس عندك إلا فترة واحدة؟! أما المؤمن فعنده منطق آخر مختلف تماماً، فهو يقول: وارد في حسابي جداً أنني أُؤجل كثيراً من أعمالي الصالحة للدار الآخرة؛ وهذا وارد جداً في الحساب، خاصة إذا كانت هذه الأعمال محرمة أو كانت مما يعوق عن الله عز وجل؛ فإن الإنسان يؤجلها؛ ولذلك قد يخرج الإنسان المال وهو يحبه، كما قال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] .
ولذلك روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قصة طويلة؛ وهي المعروفة بقصة سرية القراء الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أحياءٍ من العرب، وهم سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان معهم حرام بن ملحان خال أنس بن مالك فلما جاءوا إلى القوم الذين بعثوا إليهم، وقف حرام بن ملحان يدعوهم إلى الله عز وجل، ويبلغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأشاروا إلى رجلٍ منهم -واحدٌ من هؤلاء الكفار المشركين المدعوين- قيل إنه عامر بن الطفيل وقيل إنه جبار بن سلمى، فجاء إلى حرام بن ملحان وطعنه بالرمح حتى أنفذه، أي: طعنه في بطنه حتى خرج الرمح من ظهره، ففار الدم بغزارة فماذا صنع حرام بن ملحان؟ والآن أنت أمام إنسان تخلى عن أمر دنيوي، تخلى عن الدنيا كلها، فهل بكى على ما خلف من الزوجة والأولاد وعلى العبيد وعلى الدنيا وعلى المزارع والبساتين؟ كلا، لم يحصل هذا، إنما استقبل الدم الذي يفور من بطنه بغزارة، حتى امتلأت يده، ثم رشق الدم على رأسه، ووجه وصدره وقال: [[الله أكبر! فزت ورب الكعبة]] وهذا عجيب! فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على البقية وقتلوهم، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قرآناً نسخ بعد ذلك، وهو: {أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا} فكان الرجل القاتل يتعجب من هذا المؤمن! الذي يقتل الآن، ويقول: فزت ورب الكعبة، عجيب! فهل تعتقد أنه يمثل؟! هذا ليس موقف تمثيل، بل هذا موقف يصدق فيه الكاذب، ويؤمن فيه الكافر؛ فهو موقف جدِّ لا هزل فيه، والرجل يقول الحقيقة: [[فزت ورب الكعبة]] ولابد أنه رأى بعينه وامتلأ اليقين بقلبه، فصار يقول: فزت ورب الكعبة.
إذاً: المؤمن عنده منطق آخر ومقياس آخر غير مقياس أهل الدنيا؛ وهذا المقياس يقول: من الممكن جداً أن يتخلى الإنسان المؤمن عن كثيرٍ من أمور الحياة الدنيا رغبة في الله تعالى والدار الآخرة.
وهذا النوع الأول من الذين يخافون من الموت: وهو الذي لا يؤمن بالدار الآخرة، فيريد أن يبقى أكبر مدة ممكنة في الدنيا، حتى يستمتع بلذاتها.