نعمة توجه الصحوة لطلب الدليل

أيها الإخوة: إن من نعمة الله على هذه الأمة في هذا العصر خاصة، أن مَنّ الله عليها بوجود هذه الصحوة الإسلامية، التي عمت سائر البقاع، وسائر الأجناس وكافة الطبقات، فأصبحت تجد في المسلمين من كبارهم ومن شبابهم، من رجالهم ومن نسائهم، من أقبلوا على هذا الدين بصدق وإخلاص، ومن اتجهوا للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وهذه نعمه يمتن الله بها علينا في هذا العصر، حيث نرى بأعيننا إقبال الناس على الإسلام، ورغبتهم فيه، في حين أنه مر بالمسلمين -منذ وقت غير بعيد- زمان قلَّ فيه المقبلون على الخير، وضعف شأنهم، وحتى الذين كانوا مستقيمين لم يكن لدى أكثرهم وعي صحيح، ولا حرص قوي على التفقه في الدين، ومعرفة حكم الله ورسوله فيما يعرض لهم.

ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى.

إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية! وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأشهب وسحنون من أئمة المالكية.

إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال.

ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:- الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه.

والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد.

والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015