الخطوة الثالثة وهي خطيرة جداً، وهي: قضية المراقبة والمحاسبة، مراقبة أهل البيت ومحاسبتهم على الأخطاء، وأذكر أيها الإخوة إنساناً من أحد البلاد العربية، كان عمره ستين سنة، وكانت رتبته وكيل وزارة في بلده، يقول والدي حتى هذا السن يحاسبني على ذهابي وإيابي، فإذا أردت أن أخرج في غير وقت العمل كان يقول لي: -وأنا ابن خمسة وخمسين، أو ستين سنة، وكيل وزارة، كان أبوه يوقفه- ويقول له: إلى أين؟ فيقول: إلى المكان الفلاني، فإذا رجع متأخراً -مثلاً- سأل ما سر التأخر؟ من أين أتيت؟ يقول: كان يحاسبني وأنا بهذا المستوى، وفي هذا الموقع الوظيفي الهام.
إذاً القضية ليست مربوطة بسن معين، أبداً.
حتى كبير السن ممكن أن يساءل ويناقش، فأب عنده فتاة مزوجة، لا يقول: أنا زوجتها وهي الآن في عنق زوجها وفي ذمته، لا.
بل يمكن أن يحاسبها ويسألها، فالرسول عليه الصلاة والسلام في يوم من الأيام، كما في سنن النسائي بسند -إن شاء الله- لا بأس به: {جاء من عند جنازة -دفن رجلاً من الأنصار- فأقبل فوجد ابنته فاطمة رضي الله عنها عند الباب -قابلها عند البيت، وفاطمة متزوجة، وفاطمة رضي الله عنها لا تحتاج إلى كلام، فهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نساء أهل الجنة- فقال لها: من أين أقبلت؟ -من أين؟ هذا سؤال- قالت: يا رسول الله، أتيت من عند أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، قال عليه الصلاة والسلام: لعلك بلغت معهم الكدى -وصلت معهم إلى المقابر- قالت: لا يا رسول الله -معاذ الله- وقد سمعتك تذكر فيما تذكر، لا يمكن أن أذهب للمقبرة، وأنا سمعت الوعيد الشديد على المرأة التي تذهب إلى المقابر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: والله لو بلغت معهم الكدى ما رأيتِ الجنة حتى يراها جد أبيك} وجد أبيها كان كافراً، وهو عبد المطلب فالمهم: من أين أقبلت؟ ومرة أخرى: {جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت علي بن أبي طالب، ولم يجد علياً -والحديث في الصحيح- فوجد فاطمة، قال لها: أين ابن عمك؟ -أين علي؟ - قالت: يا رسول الله! كان بيني وبينه مغاضبة! مثلما يحدث بين أي رجل وزوجته، وهناك سوء تفاهم -فخرج مغضباً- وكان هذا وقت القيلولة، ولذلك الرسول يسأل أين علي؟ فحسب العادة الإنسان يكون موجوداً فيه في بيته فخرج الرسول عليه السلام يبحث عن علي فوجده مضطجعاً في المسجد، نائماً على جنبه، وقد انحسر الرداء عن جنبه، فنام على التراب، ولصق التراب بظهره وجنبه، فضربه الرسول عليه السلام وقال له: قم يا أبا تراب} فكان علي رضي الله عنه يفرح بهذا اللقب، ويفخر به، لأن الذي سماه به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعجب من ذلك وأغرب، في صحيح مسلم قصة عائشة رضي الله عنها: {في يوم من الأيام دخل الرسول عليه السلام في ليلة عائشة عليها في حجرتها، ووضع ثيابه ووضعت هي ثيابها -يعني يتهيئوا للنوم- ونامت رضي الله عنها ونام النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوارها، حتى ظن أنها قد رقدت، فقام بهدوء صلى الله عليه وسلم، ولبس ثيابه ثم خرج -كانت عائشة لم تنم بعد، وإنما تظاهرت بالنوم، فلما رأته خرج، قالت: الآن ذهب إلى بعض أزواجه، أو بعض إمائه، فقامت ولبست ثيابها، وخرجت وراء الرسول عليه الصلاة والسلام -لكن من بعيد تلاحظه، وتمشي وراءه- فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى البقيع، فوقف قليلاً ثم رجع، فلما رأته رجع أسرعت.
قالت: فهرول فهرولت، فأحظر فأحظرت، فسبقته فدخلت -دخلت الحجرة- ثم تغطت بلحافها، وأغمضت عينيها -وشخرت وتظاهرت رضي الله عنها بأنها نائمة ومستغرقة في النوم- وجاء الرسول -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- وجلس إلى جوار حبيبته عائشة رضي الله عنها أمنا، فلحظها صلى الله عليه وسلم، ووجد أن نفسها سريع، فهي تتنفس بسرعة شأن الإنسان المتعب، قال: مالي أراك يا عائشة حشي الرابية؟ لماذا صدرك ملآن من الهواء؟ ففتحت عيناها، وقالت: لا شيء يا رسول الله! قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، خرجت وراءك، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قالت: نعم، فلكزها، قالت رضي الله عنها: فلكزني في صدري لكزة أوجعتني، فضربها، وقال: أخشيت أن يحيف الله عليك ورسوله، قالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله.
قال: يا عائشة إن جبريل أتاني حين دخلت، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعتِ ثيابك، فتكلم لي فخرجت إليه، فقال لي: إن الله تعالى يأمرك أن تستغفر لأهل البقيع، فخرجت واستغفرت لهم} .
فانظر مساءلة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، لماذا؟ أين كنت؟ ما الذي دفعك إلى الخروج؟ ثم انظر إنه يؤدبها، ويضربها في صدرها ضربة توجعها، لأن مثل هذا العمل لا يكون ولا يصير، ولـ عائشة رضي الله عنها أخبار عجيبة في هذا الباب.
والمقصود من هذه القصص، أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحاسب زوجاته، ويحاسب بناته، ويحاسب الآخرين، ويأمر الناس أن يحاسبوا من تحت أيديهم على الحركات، والتصرفات، والذهاب، والإياب، وعلي كل شيء كبيراً كان أو صغيراً فهذا لا يمنع من المحاسبة.