باطن الإثم

خامساً: باطن الإثم، أما الباطن وهو السر والخفي فكثير، ولكن هاهنا

Q لماذا نص الله تعالى على باطن الإثم دون ظاهره؟ فأقول لأسباب: أولها: إن من شأن الإنسان المؤمن أن يخفي إثمه، ويستتر به عن الناس لأنه يدري أنه عيب وعار ومذمة، ولهذا روى الإمام أحمد رحمه الله ومسلم رحمه الله في صحيحه عن {النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس} فالمؤمن يكره أن يطلع الناس على الإثم بفطرته وطبيعته، لأنه يعلم أن الناس يستعيبون ذلك ويسترذلونه ويذمونه، والمقصود بالناس: المؤمنون الأتقياء الذين يذمون الباطل وينكرونه، ويعرفون المعروف ويأمرون به.

إذاً فالآية نهي عن الإثم من حيث هو إثم، عرفه الناس أو لم يعرفوا، فهو يترك الإثم لأنه إثم: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] ولهذا قال ابن الأنباري رحمه الله: المعنى ذروا الإثم من جميع جهاته.

السبب الثاني: أن من الناس من يترك المعصية علناً، لا يتركها خوفاً من الله عز وجل ولا خشيةً من عقابه، ولكن يتركها حفاظاً على مكانته الاجتماعية، وخشية انكسار جاهه عند الناس، وحياطة لمنزلته، وذلك لأنه في مجتمع متدين، تقوم علاقاته على أساس ديني، فهو حريص على صورته الدينية لدى الجيران، ولدى الأقرباء، ولدى الزوجة، ولدى أهل الزوجة، ولدى زملاء العمل أو المهنة، ولذلك هو يستتر عن الناس جميعاً، ولكنه لا يستتر عن الله عز وجل لأنه لا يخافه، فهو يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، ولا يترك المعصية مراقبة لله تعالى هذا من جهة.

أوقد يكون تظاهره بالطاعة وإخفاؤه للمعصية رعاية لمكانته الخاصة في المجتمع المبني على أساس ديني، كأن يكون إماماً، أو خطيباً، أو عالماً، أو داعياً، أو موجهاً، أو مرشداً، فيرى أن الناس ينظرون إليه على أنه رمز للدين والتدين والصلاح، ولذلك هو كسب المنزلة بهذا السبب، ونال رضا الناس من هذا الوجه، حتى لو كان مجتمعه مقصراً، أو منحرفاً أو مفرطاً، فهو يحتاج حفاظاً على منزلته الخاصة إلى المصانعة الظاهرة والتجمل والتعمل للناس دون أن يراعي الله عز وجل في الباطن، لأنه تقي الظاهر فاجر الباطن، والعياذ بالله! السبب الثالث: أن من الناس من يترك المعصية عجزاً، استفرغ وسعه في الحصول على المعصية والوصول إليها، فخطط ودرس ونظم وكاد وأبلغ، ولكنه فشل بعد ذلك، وعجز عن الوصول، فذهب وهو يفرك إحدى يديه بالأخرى تمنياً للمعصية ورغبة فيها، لكن حيل بينه وبين ما يشتهي، وهذا قد ثبت له إثم نيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} .

فهو قد استفرغ وسعه في تحصيل ذلك العمل، ولكن انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، إما بأن أمره انكشف للناس، أو أن تدبيره انفرط وبطل، أو فاته ما يتمنى وما يخطط له، ولهذا جاء في حديث أبي بكرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل -أي: قتل نفساً- فما بال المقتول؟! قال عليه الصلاة والسلام: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه} .

لقد ثبت له إثم العزم والنية الجازمة والمحاولة وبذل الوسع في الوصول إلى المعصية، ثبت له ذلك كله، ولكن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهذا يكتب له إثم ما سعى إليه وما بذل وحاول، أما المعصية فلا تكتب عليه معصية لم يفعلها، لا يكتب عليه أنه زنى وهو لم يزن، لكن زنت يده بالبطش، وزنت رجله بالمشي، وزنت عينه بالنظر، وزنت أذنه بالسمع، وزنى فمه بالقبلة أو بالكلمة، أما فرجه فلا يكتب عليه إثم زناً لم يفعله.

وهكذا السارق تكتب له سرقة رجله بالمشي، وسرقة يده التي امتدت إلى الحرام، وسرقة المحاولة بالتسلق -مثلاً- أو الوصول والتسلل إلى ذلك المكان، لكن لا يكتب عليه إثم مال لم يقم بسرقته أو أخذه، وهكذا بقية المعاصي، ولذلك جاء في حديث ابن عباس -أيضاً- في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -فيما يرويه عن ربه عز وجل: {إذا هم العبد بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، إلى أضعاف كثيرة، فإذا هم بها فلم يعلمها كتبت له حسنة كاملة، فإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} قال الله تعالى في آخر الحديث: {فإنه إنما تركها من جرائي} أي: من أجلي وخشية، ومراقبة لله عز وجل.

فلذلك كتبت له حسنة حينما ترك السيئة، تركها لوجه الله فكتبت له حسنة، لكن لو تركها عجزاً بعد ما حاول وبذل واستفرغ جهده، فإنه يكتب عليه وزر محاولته تلك كما دل عليه حديث أبي بكرة السابق.

أما صور باطن الإثم: فهي صور كثيرة، ولأن هذا الموضوع موضوع خطير، وهو مرادي أصلاً من هذه المحاضرة، فإني أدع ذكر بقية الصور لضيق الوقت عنها لمحاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، وأدع ما بقي من الوقت للإجابة على ما قد يكون هناك من أسئلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015