لكن ثمة ألوان أخرى من المجاهرات أعظم من ذلك وأخطر، ألا وهي: المجاهرات الجماعية، والمنكرات العامة التي يعلن المجتمع كله معصية الله تعالى من خلالها ويصر عليها، بل ويقيم المجتمع المؤسسات والدور والأجهزة التي تحرسها وتحميها وتدعمها وتقيم بناءها، ويظل هذا المجتمع عليها يغذيها بعرقه، وجهد أبنائه وماله وسمعته، ويعمل المجتمع على تدعيمها وتعميق جذورها وترسيخها يوماً بعد يوم.
تقول لي: مثل ماذا؟ أقول لك: بيوت الربا التي تجاهر بحرب الله عز وجل صباح مساء، تعلن الحرب على الله جل وعز: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: بترك الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] .
بيوت الربا التي تدار فيها الفوائد المحرمة التي جاء في تحريمها أكثر من سبعة عشر حديثاً، فهي أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقول بملء فمي: اقتصاد البلاد الإسلامية كلها وبدون استثناء يقوم على هذا الربا الحرام الذي هو حرب لله عز وجل، فكيف ترى وتظن في اقتصاد يقوم على محاربة الجبار؟! أليس مصيره إلى خسار وإلى إفلاس وإلى ضياع؟! ولذلك تجد أن أموال المسلمين تضيع في بنوك الغرب حيث تودع هناك فيستثمرها الغرب، ويأخذ المسلمون منها الفتات القليل الذي هو -أيضاً- حرام؛ لأنه جاء عن طريق فوائد ربوية، وليس عن طريق مضاربة أو ربح حلال.
تضيع في النفقات والأعطيات والهبات السخية التي تنفق ذات اليمين وذات الشمال على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود، أو من النصارى أو من غيرهما، تضيع في مجاملات واستمالات لبعض الطوائف والأطراف، فيوماً هنا ويوماً هناك، ومع ذلك ما قربت منا بعيداً، ولا أزالت عداوة، ولا نفعت إلا بإيغار الصدور وتعميق العدواة وتحريك الضغائن في هؤلاء وأولئك، فأصبحوا كلما قلت عنهم النفقة أعلنوا العداوة، وصرحوا بها، وبدءوا يبتزون أمم الإسلام يوماً بعد يوم.
وذلك كله من آثار تخلي الله عز وجل عن المسلمين في اقتصادهم حيث أقاموه على غير شريعة الإسلام، وعلى غير ما يرضي الله عز وجل، فبارزوا الله تعالى بهذه المعصية الكبيرة العظيمة، معصية الربا التي هي من أكبر الكبائر، ولم يرد فيما أعلم في شيء من المعاصي من النصوص في القرآن والحديث في التعظيم لها والتحذير منها وبيان خطورتها وفظاعتها مثل ما ورد في شأن الربا.
ومن ذلك أيضاً، من المعاصي الظاهرة الجماعية التي يقوم المجتمع، أو تقوم المجتمعات الإسلامية على حمايتها وحراستها وحياطتها: دور الرذيلة والبغاء والدعارة الموجودة في بعض بلاد الإسلام، بل والمرخص لها رسمياً في بعض بلاد الإسلام، وتقوم بعض الجهات بالإشراف الطبي عليها، وتأخذ منها الضرائب، وتعتبر أن هذه الدور هي جزء من الدخل القومي، وجزء من تحقيق معنى الاقتصاد، وجزء من جذب السواح، وهذا موجود في دول مغاربية، ودول أفريقية إسلامية، وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام، والله المستعان! والغريب أن الناس يستفظعون ذلك، ويستعظمونه، وهو لا شك فظيع عظيم، وكيف لا يستفظع المسلم الذي يستفظع مجرد سماع كلمة الفاحشة، كيف لا يستفظع أن يقع فيها إنسان؟! بل كيف لا يستفظع أن يعلن بها آخر؟! إذاً: كيف لا يستفظع أن توضع لوحة طويلة عريضة تنادي المارة إلى الإثم والفواحش؟! ولكنني أعجب -وحق لي أن أعجب- لماذا يستفظع المسلمون أن يرخص لبيوت الدعارة وبيوت الرذيلة، ولا يستفظعون أن يرخص للبنوك الربوية مع أن الربا أعظم من الزنا؟! وقد يسمون هذه البيوت بغير اسمها، {يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها} ، فهي تسمى أحياناً النوادي الليلية أو الملاهي أو المراقص أو المسارح أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من باب تغيير الأسماء، والحقائق واحدة.
ومن المنكرات الظاهرة الاجتماعية التي هي من ظاهر الإثم، والمجتمعات الإسلامية كلها تنفخ فيها وتؤيدها وتدعمها وتساعدها، وتنفخ فيها روح الحياة والقوة يوماً بعد يوم: أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي التي تشحذ الغرائز، وتهيجها وتثيرها من جهة، فهي تخاطب الشباب والفتيات: هيت لك! هيت لك! صباح مساء؛ من خلال الأغنية، ومن خلال الرقص الخليع، ومن خلال المشهد، ومن خلال الصورة، ومن خلال العبارة، فهذه الكلمة هي التي يدندنون حولها صباح مساء، أو من خلال تشويه الحقائق الواقعية، وطمس الصورة التي يحتاج الناس إلى معرفتها، وشغل الأمة بالتوافه من الأمور، والاهتمامات الفارغة؛ فيوماً بالكرة والرياضة، ويوماً بصناعة الأبطال الوهميين، ويوماً بالفن الرخيص، ويوماً بالنفخ في صور القيادات المصطنعة التي لا قوام لها بذاتها، فهي لا تملك المواهب الذاتية التي تقدم نفسها للناس من خلالها، بل هي تتهاوى كلما هدأ التطبيل لها، ولذلك تحتاج إلى أن ينفخ فيها باستمرار، وأن تعظم أبداً، وأن يتحدث عنها، وأن يصفق لها، وأن يظل الناس في ضجيج وهتاف لها حتى تكون لماعة باستمرار، ويظل الناس منخدعين بها.
وإلا فما معنى أن تقدم رموز الحداثة والأدب والشعر الحداثي في إعلام المسلمين، على أن هؤلاء هم الأدباء، وهم الشعراء، وهم رموز العلم، والفن، والفكر، والثقافة، والتقدم؟! ويحال بين الصوت الإسلامي والنموذج الإسلامي وبين أن يخاطب ولو قطاعاً من المسلمين، بل يوصم بكل نقيصة، فتلصق به تهم التطرف، والإرهاب، والتخلف، والرجعية، والانحطاط، والسوداوية، والرغبة في الرجوع إلى عصور الحريم وإلى العصور الوسطى، والعمل على القضاء على مكتسبات الدول، وعلى تدمير الاقتصاد، وعلى هدم المصالح القومية، وما أشبه ذلك من العبارات التي يلصقونها، ثم لا يسمحون للمتهم حتى بمجرد الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يعرض بضاعته بضاعة السماء ويدعو الناس إليها.
وما معنى التمكين لهؤلاء المنافقين، والهتافين، والمطبلين، الذين لا يجيدون إلا فن النفاق، والمداهنة، والتطبيل، والتزمير، والحيلولة بين رجال العلم، ورجال الدعوة، ورجال العمل، ورجال الصناعة، ورجال التقوية، ورجال الخبرة الذين ينفعون الأمة في دينها، أو ينفعون الأمة في دنياها؟! وما معنى تقديم صنائع الغرب وخدامه ومحاصرة رجال الإسلام المخلصين الذين هم خير مخلص لأمته ووطنه؟! إن من العجب أن تضيع الملايين من الشباب والفتيات في بلاد الإسلام بطولها وعرضها في لهاث مسعور وراء الإغراء، أو وراء الشهوة، أو وراء الفساد باسم الفن تارة، وباسم الرياضة تارة أخرى، وباسم الرقص، وباسم ألوان وألون من المغريات العصرية، أو يضيعون وراء الشهوة التي يبحثون عنها، أو يضيعون أيضاً وراء الشهرة عن طريق من هذه الطرق السابقة.
فإذا من الله على واحدهم بالهداية، وتاب إلى الله تعالى وأناب، فإن كان شاباً أقلع عن ذلك كله وربَّى لحيته، وتردد على المساجد، وصلى لله عز وجل واستقام حاله، وإن كانت فتاة تحجبت، وسترت ما حرم الله، وابتعدت عن الحرام، وتركت كل ما لا يرضي الله عز وجل.
وبالأمس يوم كانوا في طريق الغواية، كانت الطرق كلها أمامهم مفتوحة، والأبواب مشرعة، ووسائل الإعلام تدعوهم صباح مساء، والأموال تصب عليهم صباً، أما يوم اهتدوا فقد وجدوا المتسع ضيقاً، ووجدوا الميدان مزحوماً عنهم، فَمُنَّ عليهم وبخسوا حقهم، مُنّ عليهم حتى بكلمة يسيرة يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يبينون حقيقة موقفهم، وقد رأيت كثيراً من الصحفيين وغيرهم يقولون عن أولئك الفتيات المتحجبات اللاتي كن بالأمس راقصات، أو فنانات، أو ممثلات، أو ما شابه ذلك، قال عنهن أرباب الصحافة الكثير، فقالوا: هؤلاء البنات قبضن مرتبات وأموالاً من الخارج مقابل الهداية، وقال آخرون: تحولن إلى متطرفات ومتزمتات، وقالت فئة ثالثة: إن هؤلاء كن يمارسن بالأمس باسم الفن أموراً غير حميدة، فلما كان الأمر كذلك تركن الفن، أما بقية الفنانات اللاتي ما زلن على طريق الفن فهن نظيفات تقيات عفيفات، فالله أكبر كيف تحولت الأمور وانقلبت الموازين؟! إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت ضئيلة وقال الدجا يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء جهالة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل كيف تعيّر التقية النقية التي ضحت بالشهرة، والمال، وتحملت في سبيل الله ألسنتكم الطويلة يا أرباب الإعلام، ويا أهيل الصحافة، وتحملت في سبيل ذلك أذى الأبعدين والأقربين، وتخلت عن أشياء كثيرة في سبيل الله عز وجل، وكان حق المجتمع أن يؤيدها ويناصرها ويدعمها، ويقدمها للأجيال على أنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، لا أن يطعنها في خاصرتها أو في ظهرها، ويتهمها بمثل هذه التهم.
وليس العجب أن يتسلط على الإعلام مثل أولئك الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن العجب أن تسكت الأمة عن هؤلاء، والعجب أن تشتري الأمة مطبوعاتهم وكتاباتهم وأشرطتهم وأفلامهم، وأن يكون مال المسلمين دعماً وتقوية لهؤلاء يثرون على حسابهم.
ومن ظاهر الإثم أيضاً تولي أعداء الله عز وجل بالقول والفعل، وتمكينهم من بلاد المسلمين، ودعمهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل أمامهم في مقابل إيذاء أهل الخير، ومضايقتهم، واضطهادهم، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الله تعالى، أو عبادته، أو طاعته، أو الجهاد في سبيله، نعم إننا نعلم في بلاد الإسلام كلها أنه تقام الاحتفالات للنصارى علانية، وفي الشوارع العامة، وفي الساحات والميادين العلانية، ويحضرها أولاد المسلمين وبناتهم وكبارهم وصغارهم بصور مختلفة، ويرقصون على أنغام الموسيقى، ويقدم لهم رجال النصرانية على أنهم نماذج حية مثلما قدم لـ بابا نويل أو غيره في عدد من الاحتفالات التي أقيمت في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد.
في حين أنهم يستكثرون على أهل الخير أن يجتمع منهم ولو كان العدد قليلاً، وقد يسمح لمجموعة من النصارى أن تجتمع منهم ألوف في ميدان أو فندق أو قصر أو مكان ليقيموا الاحتفالات، ويلقوا الكلمات، ويتبادلوا الأحاديث بأجواء مخ