سياق الآيات السابقة لقوله تعالى (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)

عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة: هو جزء من آية من كتاب الله جل وعز: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة السبت السابع عشر من ذي القعدة من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، في مدينة المذنب، في مسجد الجمل.

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] إنه منتزع من تلك الآية الكريمة الآية مائة وعشرين من سورة الأنعام، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120] وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تطواف طويل في السورة، في عدد من أصحاب الجرائم والكفر والمعصية لله تعالى، تحدثت الآيات قبلها عن الذين أنكروا الوحي والنبوات، وأجلبوا في وجه الرسل عليهم الصلاة والسلام وقالوا {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] .

فأبدوا قراطيس، وأخفوا حقائقها ومعانيها وجواهرها؛ لأنهم أظهروا ما لا بد من إظهاره، وكتموا الحق الذي اؤتمنوا عليه، فكانوا كما قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وجاءت هذه الآيات بعد ما ذكر الذين يدعون نقيض ذلك، فيزعمون أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، وأنزل الرسل عليهم بكرة أو عشياً، ويقولون: قد أنزل علينا الوحي، فعاتبهم الله تعالى وجلَّى كذبهم وزيفهم، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93] وهؤلاء ما ادعوا دعواهم العريضة تلك بتنزل الرسل عليهم، ومجيء الوحي إليهم، إلا من استكبار في أنفسهم وإثم في قلوبهم، دعاهم إلى أن يدعوا ما ليس لهم بحق، وما زال ورثة هؤلاء الكذابين الأفاكين، قائمين إلى اليوم.

وقبل أيام أعلن التليفزيون اليمني عن رجل يدعي النبوة، ويقول: إن ماءه الذي يوجد في بئره خيرٌ وأكثر بركة من ماء زمزم، لأن ماء زمزم مذكر، وماؤه هو مؤنث، وهو خير منه! وادعى أن الملائكة تنزل عليه بوحي الله عز وجل، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويقدر على شيء من ذلك كثير، وأتيحت له وسائل الإعلام في الوقت الذي يحال بين دعاة الحق ودعاة الهدى وبين هذه الوسائل بشتى الأساليب، والطرائق، والحيل، والألاعيب.

وجاءت هذه الآيات الكريمة بعد ما ذكر الله تعالى الذين أشركوا به آلهة أخرى، وأشركوا، واتخذوا من دونه أنداداً: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100] .

فهؤلاء الذين أشركوا بالله عز وجل ما أشركوا به إلا لمرض قلوبهم بالشهوة أو بالشبهة، وعبادتهم غير الله عز وجل، وتقصيرهم في معرفة ما يجب لله، وتعظيمهم لبعض المخلوقين تعظيماً أوصلهم إلى أن رفعوهم إلى مقام الألوهية، وجعلوا لهم شركة في العبادة، فأشركوا مع الله تعالى الجن أو غير الجن.

وجاءت هذه الآية الكريمة بعد أولئك الذين ادعوا دعوة عريضة أنهم أهل للإيمان وأهل للتقوى، وأنه متى جاءتهم الحجج البينة والآيات الظاهرة آمنوا بالله عز وجل، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:108-109] فهم يدعون أن توقفهم في الإيمان هو من باب التثبت والتحري والبحث والصبر، وأن الذين أسرعوا في الإيمان هم من ضعاف العقول، وضعاف النفوس، السريعين إلى قبول كل قول، ولهذا أقسموا بالله جهد أيمانهم.

فأنت تتصور بين عينيك إنساناً بطوله وعرضه وبلسانه الفصيح المبين، يقسم بالله أيماناً تُرَوب الماء، وليس اللبن، أنه لو جاءته حجة ظاهرة وآية بينة لآمن وأسلم، ولكن الله تعالى يقول: هم كاذبون، وإذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان أنهم رأوا الحق فأعرضوا عنه، ولهذا حيل بينهم وبينه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:109] .

جاءت الفرصة فأعرضوا عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن حال بينهم وبينها، وجعل أفئدتهم وأبصارهم زائغة لا تستقر على حال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أما أولئك الذين أسرعوا للإيمان فهم أهل التقوى والصدق وأهل النقاء والنظافة في قلوبهم، ما حال بينهم وبين الإيمان كبر ولا غطرسة ولا أنفة في قلوبهم ولا تعاظم في نفوسهم، وما قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21] بل قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء:46] وأجابوا داعي الله عز وجل.

وجاءت هذه الآية بعد ذكر الذين يتمردون على شريعة الله، ويعاندونها بالباطل، يجلبون في وجه الحق بشبهات من عندهم يزخرفونها بجميل القول وحسن العبارة، ويأتون بالقانون المعارض لشرع الله تعالى، ويأتون بالهوى المعارض للحق، ويلبسون به على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .

فهم يتعاونون فيما بينهم: (شياطين الإنس وشياطين الجن) يتعاونون على الزخرفة والتلبيس على الناس، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] فلا يصغي لهم أذنه، ولا يلين لهم قلبه، ولا يجعل لهم عقله ميداناً، إلا أولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة، ولم يجعلوها في حسابهم، فتلبست بهم الشبهات، واجتالتهم الشياطين، وأعرضوا عن الحق أيما إعراض، ورضوا بحكم الهوى عن حكم الله جل وعلا.

بعد ذلك ذكر الله تعالى أيضاً الأكثرية من الناس التي رضيت بالباطل وقبلته، بل أصبحت من الدعاة إليه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] .

لأنهم إما مقلد أعمى يغتر بمعسول القول وحلو العبارة، وينخدع بما تروج له أجهزة الإعلام، فيقرأ في الصحف العناوين العريضة، ويشاهد في التلفاز البرامج المرئية المؤثرة الكثيرة، ويسمع في الإذاعة حسن القول ومعسوله، ويقرأ في الكتب القصص، والأشعار، والقصائد، والتحاليل، والأخبار، والدراسات التي توصف بأنها تاريخية وعلمية وموضوعية وغير ذلك من الألفاظ والألقاب الفضفاضة؛ فينخدع بذلك فيتحول من إنسان على فطرته إلى شخص منخدع بالباطل، ثم ينتقل بعد ذلك خطوة أخرى ليصبح داعية إلى الضلالة، من أطاعه أضله عن سبيل الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] .

إن أكثر الناس إنما هم مقلدون، عقولهم وقلوبهم هي مسرح لآراء الآخرين، قد رضوا أن يفكر عنهم غيرهم، وأن ينظر في الأمر سواهم، ثم يملي عليهم ما وصل إليه، فيقبلون ذلك منه، ويرددونه بألسنتهم دون أن تعيه قلوبهم، ولو نظرت عبر التاريخ كله لوجدت أن الجاهلية التي واجهت الرسل عليهم الصلاة والسلام كان لها زعماء يغرون العامة، ويقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح:23-24] .

بعد ذلك ذكر الله عز وجل في الآيات موضوع الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأن المؤمنين عليهم أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وذبح بالذكاة الشرعية، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:119] .

لقد قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أنتم تأكلون ما ذكيتم، ولا تأكلون ما ذبح الله عز وجل، فتأكلون ما ذبحت أيديكم، ولا تأكلون ما ذبحه الله بسكين من ذهب؛ يعنون الميتة، لماذا تفرقون بين هذا وذاك؟ هذا من وحي الشياطين، شياطين الجن والإنس الذي هو قانون وضعي يعارضون به شريعة الله تعالى، فشريعة الله تقول المذكى حلال، المذكى باسم الله على يد مسلم أو كتابي هذا حلال، أما شريعة الطاغوت فتقول: حتى الميتة حلال، والدم حلال، لماذا؟ لأنها مما ذبحه الله عز وجل، فالحكم أنها حلال في شريعة الطاغوت، والتعليل أو الدليل أنها مما ذبح الله، وهذا من تلبيس الشيطان على بني آدم، فهو من وحي شياطين الجن تلقفه عنهم شياطين الإنس، ورموا به في وجوه المؤمنين بالتشبيه والتشكيك، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} [الأنعام:121] أي: في تحليل الحرام أو تحريم الحلال واعتقاد ذلك {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] {

طور بواسطة نورين ميديا © 2015