هذا الرجل صاحب العمل يخاطب موسى وقد جاءه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] .
فأولاً حدد له قيمة الأجرة قبل أن يطلب منه العمل، الأجرة ما هي؟ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، أما العمل فهو أن تأجرني ثماني حجج -ثماني سنوات- فإن أتممت عشراً فمن عندك.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] هذا هو العقد الكامل، العمل بالرعي والسقي معروف واضح، والأجرة هي الزواج من إحدى هاتين الفتاتين، المدة ثمان سنوات إلزامية، وسنتان اختيارية ليس فيهما إلزام.
أما رب العمل فهذه صفاته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] لا يشق على العامل، ولا يحمل عليه ما لا يطيق ولا يعنته ولا يكلفه يكلفه، فليس في العمل أعباء يعجز عن حملها ولا مسؤوليات يضعف عنها، ثم: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] في أخلاقه، في معاملته، في رفقه، في حلمه، في تعليمه له، إن صحبة الصالحين سبب للصلاح والفلاح، وافق موسى عليه السلام وأعلن ذلك، قال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] .
وهاهنا يظهر التراضي التام بين الطرفين والاتفاق على شروط العمل، ثم قال موسى عليه السلام: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] إنها كلمة عظيمة الدلالة تؤكد أن الحقوق لا تضمن أبداً من خلال منظمات حقوق الإنسان، ولا من خلال مكاتب العمل، ولا حتى من خلال المحاكم، حقوقية كانت أم شرعية فحسب، وإنما تضمن الحقوق أولاً من خلال الضمير الحي الذي يراقب الله عز وجل، ويعلم أنه موقوف بين يديه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] .
سبحان الله! أرأيت كم بين العقد وبين انتهائه من المسافة، إنها بضع آيات ذلك بيني وبينك فلما قضى موسى الأجل، بل آية واحدة، عشر سنوات قضاها موسى، فقد قضى أطول الأجلين، لأنه رجل كريم جواد معطاء فقد رضي أن يشتغل عشر سنوات، انتهت بهذه السرعة بدون مشكلات ولا صعوبات ولا تأخير في العمل، ولا مماطلة في الأجرة، كل ذلك لم يكن بل قضى الأجل وسار بأهله، زوجته التي كانت هي التي وقع عليها الاختيار.