الحرب المعاصرة

إننا محتاجون أن نلقي شيئاً من الضوء على الحرب التي تواجه الإسلام اليوم، لأننا نصطلي بنارها، ونواجهها ونعايشها لحظة لحظة وساعة ساعة، وهذه الحرب تتحدد فيما ظهر لي في هدف واحد كبير، وهو الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم.

إننا بحاجة إلى أن نضع خطاً كبيراً تحت هذه الكلمة: (الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم) بالفصل بينهم وبين القرآن، والفصل بينهم وبين المسجد، والفصل بينهم وبين العلماء والدعاة؛ ليسهل حينئذٍ خداع العامة، وترويج الأقاويل الباطلة عليهم، بعيداً عن أولي الأمر وأولي الرأي، الذين يدركون ويستنبطون، ويسهل صرف الناس عن دينهم والتلبيس عليهم.

وطالما وقفت الأمة -مرات كثيرة- مع جُلادها ضد منقذيها بسبب عدم تبين الأمور، وغيبة الوعي، وضياع الهدف، وما جمال عبد الناصر عنا ببعيد، طالما صفقت له الجماهير، وطالما تحلق الشباب في العالم الإسلامي يستمعون إلى خطبه، وطالما وضعت الأمة فيه آمالاها، وإذا بالأمور تتبين عن حقدٍ مبيتٍ للإسلام والمسلمين، وقضاء مبرم على هذا الدين بقدر ما كانوا يستطيعون.

إنه بالفصل بين الأمة وبين دينها، وبينها وبين قرآنها وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين علمائها ودعاتها؛ ليسهل القضاء على علماء الأمة وعلى دعاتها بشتى الوسائل، والأمة تتفرج وتشعر أن الأمر لا يعنيها، إن الوئام والانسجام بين الدعاة وبين الأمة هو خير وقاية للطرفين.

وقد قال قوم شعيب لشعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود:91-92] لقد تعللوا برهطه وعشيرته، وامتنعوا عن رجمه وقتله لمراقبة ورعاية رهطه وعشيرته وقبيلته ومن حوله.

إذاً: التفاف الأمة حول دعاتها، وقاية لعلماء الأمة من ألوان الخسف والإهانة، ولقد مر بالأمة زمانُ علق العلماء على أعواد المشانق وقتلوا، وصب عليهم ألوان العذاب، بل وأحرقوا بالنيران في الميادين العامة، كما حصل ذلك في الصومال، وحصل ذلك في مصر، وحصل في عدن أيام الشيوعية، وحصل في الشام، وحصل في بلادٍ كثيرة، وشوهت صور العلماء في وسائل الإعلام، وعرضوا على أنهم دراويش، ومتخلفون وعلى أنهم رجعيون، وعلى أن هم الواحد منهم أن يجمع عدداً من الزوجات، وعلى أنهم أصحاب عقول عتيقة، وقتل وشرد منهم من شرد وقتل، وكانت الشعوب خلال ذلك كله لاهية تبحث عن لقمة العيش، وتبحث عن الوظيفة، وتقطعت النداءات دون جدوى، وكان الحال حينئذٍ كما قيل: لقد أسمعتَ لو ناديتْ حياً ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي ولو ناراً نفختَ بها أضاءت ولكن أنتَ تنفخُ في رمادِ فالتقاء الأمة بعلمائها، واجتماعها معهم، والوئام والانسجام بين هؤلاء وأولئك؛ هو وقاية للعلماء والدعاة والمخلصين والمجددين والمصلحين من أن تمتد إليهم يد الأذى أو يد التشويه، وهو -أيضاً- وقاية للأمة ذاتها من الانحراف، في عقيدتها أو في سلوكها أو في عبادتها، وذلك لوجود الهداة الدعاة، الذين يبصرونها بدين الله تعالى، ويدعونها إليه، ويحذرونها من سبل الضلال، ولن تجد الأمة قط أنصح لها من أهل الدعوة والعلم، لا في دينها ولا في دنياها، إذاً هم وقاية للأمة في دينها من الضياع والانحلال والفساد، وهم وقاية للأمة في دنياها -أيضاً- من تسلط المتسلطين، فإن العلماء والدعاة والمخلصين هم المدافعون عن حقوق الأمة , وهم المحامون عن مصالحها، دينية أ, دنيوية، وهكذا كانوا عبر التاريخ ولا زالوا إلى يوم الناس هذا.

لقد جرب العدو -أيها الأحبة- وأدرك أن الشعوب قابلة لأن تتحرك وتثور إذا مست عقيدتها مساً مباشراً.

إن إحراق المصحف أو هدم المسجد -مثلاً- أو شتم الرسول عليه الصلاة والسلام، أو سب الله تعالى من قبل بعض الكافرين، والمنافقين، إن هذا يثير المشاعر، ويحرك حتى أكثر الناس بعداً عن الدين، حتى المشاعر الخامدة تتحرك.

وما أخبار المسجد البابلي إلا شاهد عيان على ذلك، كيف تحركت الأمة من أقصاها إلى أقصاها، حيث مس مسجدٌ مساً مباشراً وهدم بصورة صريحة، وقد يسبب مثل هذا الاعتداء على المسجد أو المصحف، أو على الرسول عليه الصلاة والسلام، أو على العالم الرباني، قد يسبب طوفاناً من الغضب يجرف في سيله كل خطط الأعداء.

ولهذا فلا بأس من قدر من العناية بالمصحف، وقراءته في الإذاعة، حتى في إذاعة إسرائيل، وإذاعة لندن، وصوت أمريكا، يفتتحون بالقرآن الكريم، ولا بأس أيضاً من تحلية المصحف بالذهب، ولا بأس أيضاً -عند الضرورة- من إنشاء معاهد تخصص للقرآن الكريم، شريطة أن تقتصر على مجرد اللفظ، وإتقان القراءة والتجويد، دون التربية والبناء، ودون الدعوة للعمل بالقرآن، بل حتى التجويد ينبغي أن يكتفى منه بالإدغام والإخفاء ويتجنب الإظهار، كما قال الشاعر: وإخفاءٌ وإدغام وويل للذي أظهر أما تفسير القرآن والدعوة إليه، فضلاً عن المناداة بتحكيمه والعمل بشرائعه؛ فهي جريمة عندهم، ربما يصل عقابها إلى القتل أو ما يسمونه بالإعدام، لأن الذي ينادي بذلك خارج عن القانون، ويريد تحطيم مكتسبات الوطن، ويريد العودة إلى عصور التخلف والرجعية، وهو مرتبط بالقوى الأجنبية العميلة، إلى غير ذلك.

ولا بأس -أيضاً- من تشييد المساجد وتزويقها وتفخيمها، وصرف الأموال لذلك، والإعلان السافر المتكرر عن بناء المسجد على نفقة فلان، وتوسعته على نفقة علان، وترميمه على نفقة فلانة، لكن لا مانع من أن يبنى جوار المسجد كنيسة صغيرة، أو معبد لـ بوذا، أو حتى مرقص للترفيه والتسلية، كما رأيناه في عدد كبير من بلاد الإسلام.

أما المتردد على هذا المسجد ليصلي فيه، فإنه بمجرد أن يصلي الصلوات الخمس يصنف في قائمة المتطرفين، ويعتبر متزمتاً، وتلاحقه أجهزة الأمن وتكتب عنه التقارير، أما إذا أقام درساً في المسجد أو ألقى كلمة، أو التقى بزميل أو زميلين أو قريب أو صديق؛ فهو حينئذٍ رئيس تنظيم سري خطير، أو يعمل تجمعات محظورة، وكم هدمت من مساجد وعطلت عن العبادة الحقيقية دون أن ينكر الناس ذلك.

إذاً: الناس يغضبون إذا هدم المسجد علانية، أو أحرق المصحف، لكن إذا عطل عن غرضه وهدفه، وسبب وجوده، فإن الناس ربما يغفلون ولا يتحركون، خاصة إذا أُحكم الكيد ونظم المكر، وأيضاً لا مانع من تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم التعرض له أو المساس بشخصه، وأن يوجد قانون في بعض الدول يحارب ويعاقب من يفعل ذلك، لكن الويل كل الويل لمن يعمل بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا من أكبر البراهين على أنه إرهابي، وعلى أنه يعاني من الكبت الجنسي، وعلى أنه -على أقل تقدير- يستغل الدين لأغراض شخصية، وهو يكفر الدين، والدين من هذا الإنسان براء.

وخلاصة ذلك أن هناك طريقة واضحة اليوم، وهي تهدئة المشاعر بالمحافظة الظاهرية على أماكن العبادة، والحفاظ الظاهر على أشخاص الملة، أنبياء كانوا أو علماء أو دعاة، وبالمقابل يكون العمل الجاد للحيلولة بين الأمة وبين قرآنها، وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين عالمها بشتى الوسائل، ومن هذه الوسائل المتعلقة بالأمة الموجهة لها:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015