القاعدة الرابعة: كيد الأعداء ومكرهم ضعيف

إن كيد العدو ضعيف، ومكره إلى تباب، قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] .

وسبحان الله! قد يتصور بعض البسطاء، والذين لا علم عندهم، وغير المتأملين، قد يتصورون نوع تعارض ظاهري، بين الآيات التي وردت في شأن كيد الكافر، يقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ويقول: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] أي: في ضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه وضلاله وأنه لا يبلغ أثره.

وبالمقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] .

فسبحان الله! انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم لترى مصداق ما أخبر به الله جل وعلا في كتابه الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأنت اليوم حين تقرأ عن خطب أعداء الإسلام ودراساتهم واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد وخبثه ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير وأعظمه وألطفه، فلهم حيل وأساليب خفية لطيفة لا يدركها أكثر الناس، فهنا تتذكر قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] فهو مكرٌ دقيق، مكرٌ لو بلغ أثره وتحقق مقصوده لزالت الجبال بسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق ولطيف وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون ويتصورون.

فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] ؛ وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة ظنوا هم أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، فتجد الثغرات التي تقع في النتائج المترتبة على أعمالهم ولو بعد حين، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه وكثرة ثغراته في أمور كثيرة، منها: مثلاً مواجهة الشيوعية اليوم.

لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين، وصرحوا بذلك، كما في كتاب نصر بلا هزيمة لـ نيكسن وغيره، ولم يكن هناك أي دراسة تتوقع سقوط الشيوعية في الغرب بهذه السرعة، فإذا ببناء الشيوعية يتهاوى خلاف ما كانوا يتوقعون، فلما تهاوى، حاولوا أن يصطادوا في الماء العكر، وقالوا: نحن كنا وراء سقوطالشيوعية، وسربوا أخباراً عن أعمال الفاتيكان في بولندا للقضاء على الشيوعية، وعن اتصالاتٍ خفية، وعلى أن العالم الغربي هو الذي كان يسعى إلى إسقاط الشيوعية.

نعم كان للعالم الغربي يدٌ في ذلك، لكن اليد الغربية كانت يداً واهية ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية فهي السنن الإلهية العظيمة التي سبق الحديث عنها.

مثال آخر: حرب الخليج، لقد ظن العالم الغربي أنه سوف يخرج من حرب الخليج ظافراً منتصراً، وسوف يتوج ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، الذي بموجبه يخضع العالم لهيمنة الصليب، ممثلاً في الولايات المتحدة أو في الأمم المتحدة وهما لفظان أو اسمان لمسمى واحد، فإذا بحرب الخليج تتمخض عن أحداث لا يتوقعونها، مثلاً: كانوا يتوقعون أن يتخطف المؤمنون بعد حرب الخليج في بيوتهم بلادهم، وأن يضعف شأن الإسلام، فإذا بهم يواجهون أن العالم الإسلامي عاش فراغاً كبيراً بعد حرب الخليج، وأن الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلبي طموحات الناس وتطلعاتهم ورغباتهم وأمورهم، هو العودة إلى الدين الحق، فشهد العالم الإسلامي كله صحوة إسلامية عظيمة، زادت وتنامت بعد حرب الخليج الثانية.

مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها.

مثال رابع: حرب البلقان، سواءً في البوسنة والهرسك أو في غيرها.

إنها مثلٌ شاهدٌ يدل على ضعف الكيد الكافر، فهي قوة إسلامية ضعيفة قليلة، ومع ذلك وقف الصرب أمامها عاجزين مقهورين، على رغم سنة كاملة من الضرب والحرب والحصار والتقتيل والإبادة، ومع ذلك -أيضاً- وقف العالم الغربي عاجزاً محتاراً، فإن بقاء الحرب يهدد قوة الغرب ويهدد هيبة الأمم المتحدة، وربما ينذر بخطرٍ كبير، وربما تتحول جزيرة البلقان إلى بحرٍ من الدم، وهذا ما توقعت وتنبأت به استخبارات بريطانيا وغيرها، ومع ذلك هم عاجزون عن حل هذه المشكلة.

مثال خامس: قضية الصومال.

إنهم يدركون أن الأمر خطير، ولهذا أعلنوا أمس واليوم أن القوات الأمريكية سوف تنسحب قريباً، وأنه خلال شهرٍ واحد سوف تكون بعض هذه القوات قد غادرت وانسحبت، وحلت محلها قوات أخرى من دولٍ متعددة، وواجهوا سلبيات هناك لم تكن لهم في حساب.

المهم أنهم قد يقدرون ويحسبون ويخططون ويرسمون، لكن تأتي النتائج خلاف ما كانوا يتوقعون، كما قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؛ إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى هو وحده المتصرف في الأكوان، فهو الرب الذي لا يُقضى شيء إلا بإذنه، ولا يقع في الكون إلا ما يريد، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.

فالذي ينفذ هو أمر الله تبارك وتعالى، وليس أمر الغرب أو الشرق، ولا أمر هذه الدولة أو تلك، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذن الله عز وجل.

زعمتْ أوروبا أن تحارب ربها وليغلبنَّ مغالب الغلابِ إن النموذج الفرعوني ظاهرٌ اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول: إن هؤلاء -أي موسى وأتباعه-: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] أي: قلة وحفنة، كما يعبرون بلغة العصر الحاضر: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] فهم يقولون: هؤلاء أقلية، ويحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل.

هذا هو الظن الفرعوني، الظن البشري الجاهلي، عمل على حسب التأييد الشعبي، وعلى ملء عقول الناس، وعلى تشويه نظراتهم، حتى قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وقد قال الحافظ ابن كثير، قال: قيل في المثل: أصبح فرعون واعظاً.

ففرعون يخاف على الدين، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] وفرعون يبعد الفساد ويحاربه: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وهذا يقوله فرعون في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وجمع فرعون الكهنة، ورجال الدين في زمانه، وجبرهم لصالحه، فكانوا يحضرون الحفلات والمناسبات وغيرها، ويؤيدونه، ولما مات قاموا وصاحوا وبكوا وأعولوا وجمعوا الشعوب بهذه المناسبة، لما مات أحد الفراعنة، لكن النتيجة على الرغم من القوة التأله والطغيان النتيجة: هذا فرعون جثة ملقاة على جانب البحر: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] يقول الله تبارك وتعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91-92] .

فقذف البحر بجثته إلى الخارج {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره، أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة} أي أن جبريل عليه السلام يضع في فم فرعون الطين الأسود، خشية أن تدركه رحمة الله.

فهذا هو إلههم الذي كانوا يعبدون ويؤلهون، وكانوا له يسجدون، وبحمده يسبحون، هاهو جثة ملقاة على البحر، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إذاً هذه قواعد أربع لا بد أن نعيدها باختصار: القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية.

القاعدة الثانية: الأعداء مهما اختلفوا فيما بينهم يوحدون صفوفهم في مواجهة الإسلام.

القاعدة الثالثة: لم يكن كيد العدو ليبلغ مبلغه؛ لولا أنه وجد من المسلمين تجاوباً معه.

القاعدة الرابعة: إن كيد الكافرين ضعيف وهو إلى تبابٍ وإلى ضلال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015