لكي نكون منصفين

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا المجلس (78) في سلسلة الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنة 1413 للهجرة، وأول عنوان أطرحه بين أيديكم (لكي نكون منصفين) .

لقد قلت لكم بالأمس: (أنصفوا المرأة) وأنا اليوم أقول لكم: و (أنصفوا العمال) أيضاًًًًًً، وهذا هو عنوان حديثنا في هذه الليلة، وكما حاولت أمس أن أهدئ مشاعر الرجال بوعد مفتوح بدرس يكون عنوانه: أنصفوا الرجل؛ فإنني أحاول اليوم أيضاً أن أهدئ مشاعر أرباب العمل والكفلاء بأمرين: أولهما: أن أقول: إن ما سوف أذكره اليوم من مظالم حاقت بهؤلاء النفر الضعاف من العمال الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً، وكثرت وانتشرت وذاعت وشاعت، إنها وإن كانت أمراً مشتهراً كثيراً إلا أنه ليس قاعدة مطردة، فنحن نعرف بين أرباب العمل والكفلاء من يتميزون بالصدق والإنصاف والإخلاص والعدل حتى إن أحدهم يعامل عماله ومن تحت يده كما يعامل أولاده.

إذاً ما نقوله ليس قاعدة عامة، وليس اتهاماً لكل صاحب عمل، ولا لكل مالك مؤسسة، ولا لكل قائم على شركة، فإننا نعلم بين هؤلاء من يقوم بالحق والعدل والقسط، ولهؤلاء منا الدعاء ولهم من الله عز وجل الأجر والثواب بإذنه سبحانه، ولكنَّ حديثنا عن فئة خاصة، وطائفة معينة -وليست بالقليلة- من أولئك الذين يسومون عُمَّالهم سوء العذاب.

وثانيهما: أن كلاً من الطرفين: العمال وأرباب العمل، يتحمل جزءاً من المسئولية، وكما أن للعامل حقوقاً يجب أن يأخذها، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العامل راعياً ومسئولاً عن رعيته وكما في الحديث الصحيح {ما من والٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} فالمحافظة على مواعيد العمل بإتقان ودقةٍ وانتظام هو من الواجبات على العامل، وقد يتأخر الكثير من العمال بعذرٍ أو بغير عذرٍ عن أداء عمله في الوقت المحدد وعلى الوجه المطلوب.

والمحافظة على مال الغير كفيلاً كان أو رب عمل أو غيرهما هو ضرورة أيضاً وواجب وهو جزء من الأمانة في عنق العامل، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود وغيرهما عن أبي هريرة وهو حديث صحيح، وفي الباب عن أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وغيرهم، فلا يجوز أن تأخذ مال الغير ظلماً أو سرقةً أو اختلاساً أو غصباً، ولا حتى يجوز عند طائفة من أهل العلم أن تأخذ ماله وأنت تقول: إنه ظلمني وأنا آخذ بعض حقي منه وقد ظفرت به؛ فإن من أهل العلم من لا يجيز ذلك قط، ومنهم من يحمل الحديث على الاستحباب ألا تأخذ مال الكفيل، ولو كان ظالماً لك معتدياً على حقك.

وقد يحافظ العامل أحياناً على الوقت المحدد للعمل، ولكنه لا يقوم بالواجب المنوط به ولا يؤديه على الكفاية وهو يعلم في قرارة نفسه أنه يستطيع أن يقوم بالعمل بصورة أفضل، وأن ينجزه بطريقة أحسن مما فعل لو أنه استشغر المسئولية وستحضر الإخلاص لله تعالى، وقد روى البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} إنه ليس من الإتقان، ولا من المسؤولية في شيء أن يقدم الإنسان نفسه للآخرين على أنه يحسن كل عمل، ويجيد كل فن ولا يعتذر عن شيء، ولكنه لا يحسن شيئاً قط.

كما إنه ليس من القيام بالمسؤولية أن يحضر العامل في الوقت المحدد، ويورَّي بالقليل من الأعمال، فإذا جاء الكفيل تظاهر بأنه منهمك في العمل، مخلص فيه، فإذا أعرض عنه عاد إلى الدعة والراحة والسكون، فإن خصمه حينئذٍ هو الله عز وجل وليس خصمه الكفيل الذي يحضر ويغيب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015