ارتباط الرؤى بواقع الناس

ثانياً: أننا نجد أن الرؤيا مرتبطة بواقع الناس، فكثيراً ما يتحدث الناس عن الرؤى والأحلام وخاصةً النساء، وغيرهن على سبيل العموم، كثيراً ما يتحدثون عن الرؤى والأحلام، يقال: رأيت فيما يرى النائم، ورأت فلانة، ورأى فلان، وما أشبه ذلك.

وعلى سبيل المثال أيضاً: عندما تسمع من بعض المشايخ الذين يسألهم الناس عن أمور دينهم، تجد أن كثيراً من السائلين يسألون عن الأحلام -أحياناً- أكثر مما يسألون عن الحلال والحرام، كثيراً ما يسأل الإنسان عن رؤيا رآها لنفسه، أو لأبيه الذي مات منذ كذا أو أمه التي ماتت منذ كذا، أو قريبه، لكن ربما هذا الإنسان نفسه لا يسأل -أحياناً- عن أمر من أمور الدين الذي يخصه ويتعلق به، وقد يكون بعض ما يسأل عنه من الرؤى والأحلام أضغاث أحلام لا قيمة لها.

وأذكر أن كثيراً من المغرضين يستغلون ناحية اشتغال الناس بالرؤيا، فينشرون -أحياناً- رؤى باطلة، ولعلكم جميعاًَ تذكرون الورقة التي وُزِّعت منذ سنين عما يسمى بـ (رؤيا الشيخ أحمد) خادم الكعبة، كما سُمِّيَ في الورقة، وفيها تهاويل وخرافات ومبالغات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، وفي نفس الورقة طُلِبَ أن تُكْتَبَ هذه الرؤيا وتوزع، وأن من استهان بها أو أحرقها أو أتلفها فإنه يتعرض للعقوبة العاجلة والآجلة، وهذه الرؤيا كَتَبَ فيها سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة بعنوان: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد، ووزع الكتاب كثيراً ومراراً، ومع ذلك فإن هذه الوصية نفسها تثور بين حين وآخر، وتنتشر عند الخاصة والعامة، وأخص: أوساط النساء في كثير من الأحيان.

وقبل فترة ليست بالبعيدة في أواخر الفصل الأول؛ اتصل بي مجموعة غير قليلة من الطالبات، يسألن عن رؤيا يزعمن أنها وُجِدَت، فيقلن: إن إحدى الفتيات كانت مريضة أو شيئاً من هذا القبيل، ورأت في المنام إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: إنها مَسَحَتْ عليها، فشُفِيَتْ بإذن الله، ثم قالت لها: اكتبي هذه القصة في ورقة (13) مَرَّة، وأبلغي الناس أن يكتبوها (13) مَرَّة، ومن كتبها فإنه يكون له الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، ومن استهان بها فإنه يُعاقَب.

وانتشرت هذا الأسطورة في أنحاء البلاد، وبدأ بعض النساء يَكْتُبْنَها، خوفاً من العقوبة الدنيوية، أو خوفاً من العقوبة الأخروية، مع أنها أسطورة مكذوبة مختلقة لا أصل لها.

ونحن لا نشك في أن هذا الأمر مكذوب لأسباب عديدة، سبق أن بينتها في بعض المناسبات، منها على سبيل المثال: إن هذه الرؤيا لا يتعلق بها تشريع ولا حلال ولا حرام، بمعنى: أنه ليس فيها حكم شرعي، حتى يلزم الناس أن يطلعوا عليها ويعرفوها ويكتبوها، فمن أنكر هذه الرؤيا وكذبها، فكيف نقول: إنه آثم أو يتعرض لعقوبة؟! التشريع من عند الله تعالى، والله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقد كَمُلَ الدين، وتمت النعمة، فلم يعد الدين بحاجة إلى من يكمله، بمعنى: أن بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يَجِدَّ أمرٌ من الأمور يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- مطلوباً من الناس، أو يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- منهياً عنه، المنهيُّ عنه عُلِم والمطلوبُ عُلِم، ولم يعد هناك مجال للزيادة أو النقص في الدين.

كما أننا نعلم أن هذه القصة مسلسلة بالمجهولين والكذابين، فمن التي رأت هذه القصة؟ ومن الذي روى عنها وأسند عنها هذا الخبر؟ لا شك أنهم أناس أو نساء مجهولات لا نعرف مَن هُن! ثم لنفترض أن هؤلاء النساء نساء موثوقات ودينات وصينات وعابدات وو إلخ، فكيف يروِين مثل هذا الأمر الذي لو فُرِضَ أنه صحيح ورأته واحدة في المنام؛ لكنا نجزم ونقطع بأنه من لَعِبِ الشيطانِ على الإنسان؟ لأن الشيطان قد يأتي للإنسان في المنام فيلعب به ويخادعه، فإذا حدث مثل هذا، فكان الأجدر بالإنسان أن يكتم هذا الأمر ولا يُخبر بِلَعِب وعَبثِ الشيطان به في منامه، أما أن يعلنه على الناس ويبينه ويضحك به على السذج، فهذا -لا شك- أنه لا يجوز.

وأخيراً: أقول في شأن هذه الرؤيا: كونها تطلب أن تُكتب هذه الرؤيا وتُنْشر، وتزعم أن رجلاً كتَبَها فحصل له سعادة ومال وتوفيق، وآخر مزقها ففصل من وظيفته، وثالث أصابه حادث، ورابع تلف ماله بسبب تمزيقها، نسأل: هذه الرؤيا هل تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدينية، أم تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدنيوية؟ إن كانت ستكتب على أنها دين، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن تعالى يقول في محكم التنزيل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] فالإنسان لو صلَّى -مثلاً- أو صام أو حج يريد الدنيا؛ لكان صومه وصلاته وحجه من الأشياء التي يُعاقَب عليها في الآخرة، وإن كانت عبادات في الأصل، لكنه أراد بها الدنيا قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] وكذلك يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .

إذاً: أنت لو صليتَ -مثلاً والصلاة مشروعة كما هو معلوم- تريد الدنيا، وتريد مدح الناس أو ثناءهم، أو أن يزوجوك، أو أن تحصل على وظيفة من المصلين، لكانت صلاتك وبالاً عليك، وتعذب بها يوم القيامة، وهي عبادة في الأصل، لكن نيتك فيها سيئة، فكيف حين يفعل الإنسان أمراً ليس مشروعاً بنية تحصيل الدنيا؟ هذا لا يكون.

والأسباب في الوصول إلى الأمور الدنيوية معروفة، فالإنسان -مثلاً- إذا أراد حفظ صحته -بعد توفيق الله- يعمل بالأسباب، مثل: تجنب الإكثار من الطعام والشراب أو الإقلال منه، أو التعرض -مثلاً- للبرد الشديد، أو الحر الشديد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجلب له -بعد إرادة الله تعالى- المرض.

فأسباب تحصيل الأمور الدنيوية معروفة، وأسباب تحصيل الأمور الدينية أيضاً معروفة، فهذه الرؤيا ليست من أسباب تحصيل أمور الدنيا، وليست من أسباب تحصيل أمور الدين، وبذلك ثبت أنها باطلة، وأنه يجب التحذير منها، وأن ينتبه لذلك أولياء الأمور، فينبهوا من يطلعون عليه إلى مثل هذا السخف ومثل هذا الهراء.

إذاً: كثيراً ما يشتغل الناس بالرؤى والأحلام، وكثيراً ما تؤثر في حياتهم، وتجعل بعضَهم يتصرفون تصرفات منافية للشرع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015