حقيقة سير الإنسان في هذه الدنيا

الإيحاء الرابع الذي يتذكره الإنسان في مثل هذه المناسبة: هو أنه يتنبه إلى أن الذي أخذ من عمره ما أخذ، إنه يباعده عن العمل ويقربه من الأجل.

فإن هذه الأيام والليالي مراحل لا تزال بالإنسان حتى تورده القبر، قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.

هذا هو حقيقة ما تقوله الأيام والليالي.

ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها فإن الإنسان يتذكر في هذه المناسبة وجوب الاستعداد للموت، وتذكر القبر والبلاء وألا يغفل الإنسان: كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك والقبر فإن من مضى، أخبارهم في الكتب والدواوين وعلى أفواه الرجال، أما من تراهم وتعاينهم فهم بين عينيك، يوماً بعد يوم يفقد الناس راحلاً إلى القبر، قد انقضت أيامه وتصرمت ساعاته وأعوامه، وانقضى أجله وارتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وهذا يذكر بقضية طول الأمل، يقول الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: {لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل} وهذا من العجب فإن الإنسان يكبر ويكبر معه أمله، وإنك لتعجب -أحياناً- أن تجد شيخاً بلغ التسعين فتجد أنه قد عقد آمالاً عراضاً! مع أنك قد لا تعجب من شاب في سن العشرين، وإن كان هذا عجباً في الواقع، لأن هذا الشاب في سن العشرين ليس معه صك أنه سيعيش كذا وكذا من السنين، وهو يرى من زملائه وإخوانه من تخرمته المنايا وانتهى في سن الشاب، وكما ذكر أبو الحسن التهامي حين كان يرثي ولده: شيئان ينقشعان أول وهلة ذل الشباب وصحبة الأشرار يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار حتى ابن العشرين ما يدري لعل هذه ليلة لا يدركه صباحها، أو يوم لا يدركه مساؤه! بل رب ساعة لا يدركها! ورب نفس يخرج ولا يدخل، أو يدخل ولا يخرج! فهذا هو كل ما في الأمر.

لكن قد تقول: الشباب يغتر بشبابه، واسوداد شعره وحيويته وقوته ونشاطه وإقبال الدنيا عليه، لكن تعجب من شيخ بلغ الستين أو السبعين أو الثمانين وربما التسعين، ومع ذلك يعقد الآمال العراض، فهو يشتغل في المزرعة ويبني العمارة ويجمع الأموال والدور ويبني القصور: يؤمل آمالاً ويرجو نتاجها وأرى وعلَّ الردى مما يرجيه أقربا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه، وقد صعد على درج مسجد دمشق فقال: [[يا أهل دمشق! ألا تسمعون من أخ لكم محب ناصح مشفق؟! إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويؤملون بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً، وأملهم غروراً.

هذه عاد التي ملئت البلاد، وأكثرت فيها الفساد، أهلاً ومالاً وخيلاً ورجالاً، ثم صاروا إلى ما صاروا إليه، فمن يشتري مني تركتهم بدرهمين؟]] فلا والله ما قام أحد يشتري من أبي الدرداء رضي الله عنه تركة هؤلاء القوم ولا بدر منهم واحد.

تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015